حكى لنا أستاذنا عبدالرحمن العثيمين أن محمود شاكر كان يصف الشيخ عبدالعزيز بن باز بأنه جاهل! فقلنا له ولماذا؟! فقال: مِن تكبّره؛ فقد قابل مرةً الشيخ فحيّاه بقوله: «هلا يا محمود»، فرآها محمود شاكر استنقاصا لمكانته، وغضب منها غضبا شديدا جعله ينفّس للعثيمين بما قال في حق الشيخ الإمام، رحمهم الله جميعا. وراح العثيمين يذكر لنا كيف أنه وبّخ شاكرا توبيخا شديدا قائلا له: كيف تقول هذا في حق ولي من أولياء الله؟! وحكى لنا أستاذنا محمد البنا رحمه الله أن محمود شاكر سئل: لمَ لمْ يردّ عليك طه حسين؟ فقال كان يخاف مني! لهاتين الحكايتين دلالة نفسية على أننا أمام ذاتٍ فيها ما فيها من الزهو والتعالي، بل قد صرّح هو نفسه للإذاعة الكويتية في لقاء مع نجم عبدالكريم حين قال له المذيع في أمرٍ ذَكَره: هذا تواضُع؟ فقال له: «أنا لا أتواضع لأحد، أنا من الكبرياء بالمنزلة التي لا تخطر ببالك»! ولا أريد أن أخوض في هذا الجانب الشخصي من حياة محمود شاكر رحمه الله إلا بالقدر الذي يحتاجه توضيح فكرة «نرجسية الإغراب اللغوي»، كما أني لا أتناول نرجسية شاكر هنا تناولا طبيا فلست بالطبيب النفسي، ولست أيضا متقحما في خفايا نفوس الناس، بل انطلق من نصوص ومواقف، ومضمراتُ النفس تفسرها نصوصها ومواقفها، والنص أيضا يُفسّر بالنص، كما أنه يُفسر بالمقامات والسياقات والأحوال، وكل ذلك أسوقه في مقام طرح نقدي ثقافي من خلال علامات لغوية لها دلالات نفسية.
ليست نرجسيةُ شاكر بالأمر الخفي بل هي صفة مكشوفة لمن قرأه وعرف سيرته وكان محايدا لا من أنصاره ولا خصومه، فشواهدها من كلامه ومواقفه كثيرة، لكنّ الأمر الخفي هو علة هذه النرجسية وأصلها، ولا سبيل هنا إلى كشف العلة كشفا تفصيليا كاملا لأن هذا ليس من شأني كما قلت، فلا بد فيه من اختصاص طبي، ولا بد فيه أيضا من معرفة تاريخ الطفولة لصاحب الحالة، فالنرجسية - بل أغلب العلل النفسية العُصابية - ترجع نشأتها إلى أيام الطفولة كما يقرره النفسيون (انظر مثلا المدخل إلى علم النفس الحديث، ترجمة عبد علي الجسماني، ص 338)، ولكنّ في النصوص والمواقف ما يفي بالحاجة. إن في نصوص شاكر الأدبية إشاراتٍ مليئة إلى ما يبدو أنه أساس العلة التي صارت «عقدة نفسية» أدخلتْ الذات الشاكرية في صراع نفسي وفكري انعكس على أدبه ونتاجه النقدي والتحقيقي.وقد استعرضتُ ديوانه «اعصفي يا رياح» و»القوس العذراء» و»جمهرة مقالاته» فوجدت قصائده كلها تلحّ على شيء واحد يظهر من اختلاف تعبيراته عنه أنه كان كارثة الكوارث في حياته، ذلك هو فقدان الحنان ومرارة الحرمان، كقوله في قصيدة «لا تعودي» من ديوان اعصفي.. (166، 168):
لا تعودي.. أحرق الشكُ وجودي.. لا تعودي
أنتِ والأقدار!.. كم قاسيتُ منهنّ ومنكِ!
هي تأتي بيقينٍ خائنٍ في إثر شكِّ
وقوله فيها:
أنتِ إيماني.. بل كفري.. بل أنتِ جنوني!
وقد عجبتُ حين قرأت هذا الشعر كيف تأتلف مثل هذه الرؤية الوجودية الحائرة مع الرؤية الدينية – بل السلفية! – في نفس واحدة؟!
ومن قصيدة «انتظري بغضي» - وهي مما سماه: «ديوان البغضاء»! - يقول (196، 197):
فيا سوءَ ما أبقيتِ في الدمِ مِن لظى
وفي الفكر من كَلْمٍ وفي القلب من عَضِّ..
تصاممْتِ عن قلبي ورُمْتِ مساءتي
وتنظرين الحبَّ؟! انتظري بغضي
وفي قصيدة «عقوق» (204):
أوَفاءً لغادرٍ يتسلّى
بعذابي؟! تبًّا لذا الحبِّ تبّا
وفي قصيدة «مِن تحت الأنقاض» نصٌ وجودي بامتياز! لو لم يكن في ديوان محمود شاكر لقلنا إنه لإيليا أبو ماضي أو غيره من شعراء الحيرة والشك في العصر الحديث! يقول (234):
لا أرى إلا فناء أو سُدى
فبصيرٌ في ضلالٍ أو عَمِ
وليالٍ أظلمتْ أنوارُها
وليالٍ نورُها لم يُظلِمِ
وهما الدهرُ.. فلا ليلَ ولا
صبحَ بل والدةٌ لم تعقمِ
وحياةٌ من فناءٍ فُجِّرتْ
لفناء في حياة يرتمي
كلهُ لمْحُ وميضٍ خاطفٍ
ثمّ.. لا شيءَ.. فجاهدْ أو نَمِ!
وعلى ذكر أبو ماضي، فقد وقعتُ على نص بالغ الأهمية في جمهرة مقالاته (1 /174-192) عنوانه «إلى أين...؟» في ثلاثة أجزاء، فظَهَرَ أنه تقمّصٌ للروح اللا أدرية في قصيدة الطلاسم لأبو ماضي، تلك التي يقول فيها:
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدامي طريقا فمشيتُ
وسأبقى ماشيا إن شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!
ومحمود شاكر يقول في مقاله هذا: «إلى أين...؟»، ويكرر فيها أيضا: «لستُ أدري!! لستُ أدري» (جمهرة مقالاته 1 /175). وقد تنبه جامع ديوانه ومقالاته عادل جمال إلى مضمون هذا المقال فأحسن توظيفه في تفسير نصوص الحرمان في شعره (انظر مقدمة الديوان 6، 60 – 74) ذاهبا إلى أن أزمة شاكر سببها أمران زَلْزَلا كيانه، أولهما «فساد حياة أمته» وثانيهما «ابت لاؤه بخيانة من أحب»(47). ولكنه لم يدرِ أن أساس العلة عاطفي بحت، وليست خيانةُ الحبيبة ولا فسادُ الأمة - حسب زعمه وزعم أستاذه شاكر أيضا! - إلا إفرازات لعلة أعمق نشأت منذ الطفولة وهي الحرمان من الحنان، هذا الواقع ولّد شعورا قويا بالنبذ جَعَل ينلفت على لسانه في غير مظنته المتوقعة كقصيدة أو خاطرة، بل في نص نقدي، ففي مقال بعنوان «منهجي في هذا الباب» (الجمهرة 1/ 46) يصف نفسه بقوله: «النفس المنبوذة».وهذه الحالة تولّد ما يسميه النفسيون: «الشعور بالدونية»، وهي تستلزم ما يُسمى «التعويض» الذي غالبا ما يكون في صورة تعالٍ وزَهْو مبالغ فيه، قد يصل في ذروته إلى ما يسمى جنون العظمة (انظر المدخل إلى علم النفس الحديث 323، ومعجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة مصطفى حجازي، 486). والنفس الشاعرة بالنبذ والدونية تدافع عن ذاتها لا شعوريا باتخاذ ذاتها موضوعا للحب تعويضا عن الحب الذي افتقدته أو استقلّته من الأقربين، بدءا من الوالدين فالإخوة فالأصدقاء، ومن هنا تبدأ النرجسية، فليست النرجسيةُ إلا توجيه طاقة الحب - بأوسع معاني «الحب» - نحو الذات، ثم امتداد هذه الطاقة من الذات إلى الموضوعات التي ترى فيها الذاتُ النرجسيةُ مرجعية لها أو تراها تمثلها أو تعبّر عنها بأي صورة من صور التمثّل والتعبير، فلا يُحَب الموضوع الخارجي إلا من خلال حب الذات، ومن هنا وجدنا شاكرا مغرما بالمتنبي والمعري، فكلاهما ذو نرجسية متعالية، ولكل منهما خصوصية نرجسية تعالقتْ معها نرجسية الذات الشاكرية، فالأول كان يرى أنه محسود ومحارَب وصاحب حقوق كان يسعى في طلبها، مثلما كان محمود يشعر بأنه منبوذ ومخذول من الأقارب قبل الأباعد (قد اشتكى شاكر من خذلان الجميع لمنهج كتابه المتنبي في مقدمة رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 17)، حتى إن إغرابه النرجسي خيّل له أمورا خفية كان المتنبي - حسب زعمه - يكتمها في شعره كعلويته وحبه لخولة أخت سيف الدولة، فجهد في تثبيت الخيالات والظنون وجادل عنها وخاصم! وإذا نظرنا في دلالة وع محمود شاكر مقطوعتَه «نفثة قديمة» على غلاف كتاب المتنبي في أول نشرة له فهِمْنا الجذر النفسي الخفي وراءَ هذا الكتاب، فهذه المقطوعة من شعره في تلك الجميلة الساحرة أو «المحبوبة الخائنة» كما يقول عادل جمال! (انظرها في ديوان اعصفي 193)، ومما قال فيها:
ذكَرْتُكِ بين ثنايا السطورِ وأضمرْتُ قلبيَ بين الكلمْ
ولستُ أبوحُ بما قدْ كتمْتُ ولو حزَّ في النفس حدُّ الألمْ
تمزّقني ما حييتُ المنى فأَرْقَعُ ما مزّقتْ بالظُلَمْ
فكأنّ المقصد النفسي الخفي من هذا الكتاب الذي اجتهد محمود شاكر في تجويده هو الانتقام العاطفي اللا شعوري من تلك المحبوبة الخائنة، فهو نتاج الحب البديل؛ حب النموذج (المتنبي)الذي يمثل الذات ويعبر عن حب الذات! ويستحلب إعجاب الآخرين بالإغراب في صنعة كتاب قال هو نفسُه عن منهجه: «منهج غريب غير مألوف «! (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 17).وهذا أيضا يفسر سر الهجوم على طه حسين وعبدالوهاب عزام حين نشر كل منهما كتابه عن المتنبي، فصارعهما واتهمهما بالسرقة منه (انظر مقدمة المتنبي تحت عنوان «كتابان في علم السطو» 79 - 122)، فالعلة الخفية وراء ذلك الهجوم هو أنهما تناولا أنموذج الذات النرجسية بما لا يعجبها!
والآخَر رهين المحبسين الذي تحدّى صعاب الحياة وأبدع المعجزات وجاء بغرائب في الشكل والمضمون، فانجذبت إليه نرجسية محمود المولعة بالفن الغريب، خاصة أنه فنٌ وليد معاناة نادرة المثال، ومنطوٍ على قلق وجودي وحالة من اللا أدرية الفنية التي التحمت فيها غرابة المضامين وغرابة الألفاظ والأساليب إلى حدّ أسر الذات الشاكرية النرجسية الباحثة عن أنموذج خارجي ملائم تمارس معه الحب المفقود، فحين تُنافسها في محبوبها مرة أخرى تلك الذاتُ التي زاحمتها في محبوبها السابق فتبدع عملين عن المعري (هما «مع أبي العلاء في سجنه»، و»تجديد ذكرى أبي العلاء» لطه حسين)، وفوق هذا تكون هذه الذات أكثر قربا إلى المعري من ذات محمود لاشتراكهما في العاهة البصرية والتفوق البلاغي وحالة اللا أدرية؛ فهذا شيء مستفز للذات النرجسية وهي ترى أنموذجها المعشوق نهبا للذوات! وأولى أن تُستفَز - بل تحارِب حربا شعواء - حين يكون المنتهِك للنموذج منابذا للإسلام والعروبة كلويس عوض في مقالاته عن المعري وحديثه عن تأثره بالفلسفة اليونانية، فكانت النتيجة ثورة عارمة تمثلت في «أباطيل وأسمار»، ليس لأن مقالات لويس خطرة على الإسلام والعروبة فهي لا تعدو كونها طرحا صحفيا عاديا له أمثاله في الصحف آنذاك، وله وجهه من الصواب؛ فالأثر الفلسفي بيّن في أدب المعري، ويكفي في الرد على تلك المقالات بضع مقالات صحفية، ولكن لأنها مقالات انتهكتْ نموذج الذات النرجسية!
لمقالة «إلى أين..؟» المذكورة آنفا أهمية بالغة في كشف جذور أزمة شاكر العاطفية، وقد بناها على حوار بين الحاكي وصديقه، ولكنه وضَع إشارات تدل على أنه لا صديق ولا حاكي وأنه لا يوجد إلا شخص واحد هو الكاتب وهو محمود شاكر نفسه، وكأنه كان مدفوعا أثناء الكتابة بضغط من اللا شعور ليتحاور مع الشعور، فبدا النص في ظاهره حوارا بين صديق وصديقه، لكنّ حقيقته حوار بين نفسه الواعية ونفسه اللا واعية في تسجيل فني دقيق لصراع داخلي لذات كأنها تعاني من ازدواج أو فصام بين نفسين متصارعتين. مِن أهم تلك الإشارات قوله: «كنتُ حائرا في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عن صديقه، وما صديقه إلا هو» (جمهرة مقالاته 1/ 185).أضِفْ إلى هذا أن كل ما ذكره عن الساحرة الجميلة وقسوتها وتعذيبها ونفس العاشق العنيدة وكبريائه المأسورة في سجنها وعزلته واضمحلاله؛ كل ذلك يتطابق تماما مع ما ذكر عنها وعنه في قصائده التي حواها ديوان «اعصفي يا رياح»، خصوصا القصائد التي أدرجها تحت عنوان «من ديوان البغضاء»! ومنها بعض الأبيات المذكورة آنفا. يقول في هذه المقالة مصورا الصراع النفسي في ذاته: «كان نزاعا هائلا بين قوتين متحاربتين صارمتين عنيدتين متكافئتين، لقد أثْبَتَه ذلك حتى كاد يتمزق، إني لأحس بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتين القوتين في تنازعهما. ومضت الدقائق وأنا أعدها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصديق البائس المحطم، والذي يأبى عليه عناده إلا أن يتجلد. ولكنه ما لبث أن شق كثافة هذا الصمت المبهم بكلمة ضربت فيه: لستُ أدري!! لستُ أدري!!» (جمهرة مقالاته 1 /174- 175).
إن الصراعات الفكرية الداخلية تؤدي - كما هو معلوم عند النفسيين - إلى اضطرابات نفسية كالقلق والتوتر وشدة التهيج والكآبة، فإما أن تُحل بوسائل شعورية كتغيير الظرف المسبِّب، أو وسيلة التوفيق بين القوى النفسية المتحاربة، أو بوسائل لا شعورية أشهرها حسب مذهب التحليل النفسي وسيلتان: التسامي والكبت؛ حيث يوجِّه الإنسانُ في التسامي قُواه مِن مسار مكروه إلى آخر محبوب، كتحويل نزعة العدوانية إلى أعمال إغاثة، وحيث يُقصَى في الكبت الدافعُ المكروه مِن مجال الشعور إلى مجال اللا شعور، ولكنه لا يلبث غالبا أن يعود في صورة أحلام منامية أو تعويض في الواقع، كالتعويض عن شعور الدونية بالكبرياء والتعالي (انظر المدخل إلى علم النفس الحديث 314- 315). وسيرة محمود شاكر ونصوصه يشيران إلى أن ذاته استعملتْ كل هذه الحلول الشعورية واللا شعورية في محاولات متعددة للتخلص من الصراع النفسي الذي كان يمزقه كما صرحتْ به مقالته «إلى أين...؟»؛ فغيّرتْ الذاتُ الشاكرية ظرف الصراع حين قرّر محمود ترك الجامعة خروجا من المواجهة المستمرة والجدل المتكرر مع طه حسين في قضية الشعر الجاهلي كما كرر حكاية ذلك في مواضع من كتاباته (انظر مثلا جمهرة مقالاته 2 /1103 وما بعدها)، ملمّحا لأستاذه بأنه سطا على رأي مرجليوث عاجزا عن التصريح بذلك، وأستاذه يكرر استدعاءه إلى مكتبه موبخا له ليثنيه عن نشر قالة السوء بين زملائه، فقرر ترك الجامعة حين انهدّ معنى «الجامعة» في نفسه وأصبحت «ديارا خربة» كما قال (ص 1110). كان بإمكان الذات هنا أن تستعمل حل التوفيق، لكنه حل صعْبٌ على النفس المتطرفة الحادة المزاج، وقد صرح شاكر نفسه بأنه عجز عن حل التوفيق حين قال حاكيا جوابه النهائي للمستشرق نلينو ولكل أساتذته وأصدقاء أبيه الذين قصدوا بيت والده لترجّيه أن يعدل عن قرار ترك الجامعة - بل ترْك مصر كلها! - وهو يرفض رجاء والده وجميع أساتذته!! قال لهم: «قد مضت عليّ سنتان صابرا، أما الآن فلم أعد قادرا على التوفيق بين معنى «الجامعة» في نفسي وبين هذا المبدأ الذي أقررتموه، فتقوّض معنى «الجامعة» وأصبح حطاما فكيف تطالبوني بأن أعيش سنوات أخرى بين الحطام والأنقاض؟... شيءٌ واحدٌ؛ أن يعلن الدكتور طه أن الذي يقوله في مسألة الشعر الجاهلي هو قول مرجليوث بنصه وليقل بعد ذلك إنه يؤيده ويناصره ويحتج له أو لا يقل، فإذا فعل فستجدني غدا أول طالب يرابط في فناء الجامعة قبل أن تشرقالشمس، أما مع هذا الصمت فإن نفسي لا تطيق أن تسكن الديار الخربة! « (1110). والحق أن هذه المساومة منه لأساتذته تكشف خَبيئة هذا الموقف المتصلب فالمسألة ليست غضْبة لمبدأ ولا لقيمة «الجامعة» كما صَوّر له شعورُه الواعي بل إن في اللا شعور نزعة مكبوتة هي المتحكمة في تصلبه هذا، فهو قد أحبّ طه حسين قبل التحاقه بالجامعة حين كان يقرأ مقالاته في صحيفة السياسة، و»تاقت» نفسه إلى معرفته، و»سعى إليه سعيا»، و»قرّبه» منه طه حسين حتى «اطمأن قلبه إليه» (انظر 1102)، ثم «غمره» طه حسين بفضله و»قيّده بإحسانه» حين «أصرّ إصرارا» على قبوله في كلية الآداب بعد رفض إدارة الجامعة قبوله (1103)، فهو يودّ طه حسين بلا شك، لكنه أيضا يكرهه لخصومته الشديدة لشيخه الرافعي ولمنهجه في الفكر والأسلوب الذي هو منهج شاكر أيضا، وطه كان يحاول أن يكسب شاكرا في صفه، فصارت الذات النرجسية هنا في صراع بين المودة والكراهية، بين حفظ الجميل ونكرانه، وكأنه أحس بأن طه حسين كان يحاول بما اصطنعه من جميل أن يجنّد شاكرا ضد خصومه، فانطوت نفسه على رغبة الانتقام من طه حسين الذي خنق كبرياءه عن أن تثور في وجهه؛ فهو قد أحبه من قبل، وجمعت بينهما أستاذية شيخهما المرصفي وحبهما له، فصار كأنه شِبْهُ زميل لطه حسين وليس تلميذا خالصا، أو هو زميل خارج الجامعة وتلميذ في الجامعة، ومن شأن الزميل أن ينافس زميله، فصارت نفسه تصطرع بين الزمالة والتلمذة، ثم قد قيّده أستاذه طه حسين بإحسانه، وغمره بفضله، (ولعله أيضا كان يغار منه كما تشير إليه حالة التقمّص لبعض أساليبه كالسرد في مقامات الخصام النقدي)، فحاول الانتقام منه بحمله على الاعتذار لطلابه من السرقة الأدبية! وهذه وسيلة للتنفيس عن الشعور المكبوت المتمثل في الكراهية والغيرة، وليس الدافع وراءها قيمة سامية كما حاول شعوره الواعي التصوير لأساتذته وللقراء، وكأنه لم يسمع قبل هذا بشيء اسمه «سرقة أدبية»! وكأنّ الجامعة هي جنة المعرفة المقدسة عن أيّ عيب حتى يُصدم هذه الصدمة العنيفة من وقوع سرقة أدبية فيها!! وقد كان فيما حصل من اجتماع أولئك الفضلاء في بيت والده ورجاء الجميع له بأن يعود إلى الجامعة وإقرارهم السكوتي له بأن طه حسين قد سطا على غيره تقديرٌ أدبي فوق الحاجة لهذا الطالب الغريب المتطرف في الصدق، فلو كان سويّا متزن التفكير لاكتفى بذلك مدركا أنه نجح في الدفاع عن معنى «الجامعة» وقيمة المعرفة لو كان هذا هومقصده الحقيقي، فأيّ منزلة يرجوها طالب في السنة الثانية من الجامعة فوق أن يأتي جمْعٌ من أساتذته وشيوخه وأصدقاء والده إلى بيته يرجونه أن يعود عن قراره في ترك الجامعة ويحاولون استرضاءه بكل ممكن؟! بل جاء - فيما حكى هو نفسه - أستاذُه طه حسين إلى بيت والده يرجو عودته إلى الجامعة! لا يُعقل أن يكون وراء هذا التصلب إلا كبرياء سخيفة وعقل طائش، فالأستاذ قد أُسقِط في يديه من افتضاح أمر السرقة الأدبية حين انتشر خبرها، وكان في ذلك الانتشار بين زملائه وطلابه عار وأيّ عار، وقد أسهم الطالب محمود في ذلك مساهمة قوية، ومع ذلك يأتي الأستاذ نفسه إلى بيت والده راجيا له أن يعود إلى الجامعة! وفي هذا دلالة على ندمه وخضوعه ومحاولته إصلاح ما جرى مع حفظ ما تبقى من ماء الوجه، لكن الطالب يصر على أمر مستحيل وهو أن ينتحر الأستاذ علنًا أمام طلابه إذْ لم يشف غليلَه أن الناس – ومنهم الطالب محمود – قد أثخنوا جراحه!! وقد اعترف محمود نفسه بأن هذا الموقف منه كان منطويا على خيلاء طامية وأنه كان سخفا وسفاهة وتهورا ومخاطرة بمستقبله (1108 – 1109). ومن الطريف حكايتُه تعليق الشيخ الوقور عبدالوهاب النجار على موقف الطالب وأنه لم يفهم معنى كلامه هل هو راض عنه أو غير راض، مع أن كلام الشيخ واضح الدلالة على أن الطالب قد فقد عقله إلا حُثالة! قال: «إن هذا الفتى كان في رأسه أربعة وعشرون برجا، فطارت ولم يبق إلا برج واحد، عسى أن ينتفع به يوما ما، فيسترد الأبراج التي طارت!» (1110).
ويبدو أن الذات النرجسية قد خففتْ بعد ذلك من تطرفها بتدربها على أسلوب «التوفيق» لحل صراعاتها النفسية، فوصلت إلى حالة تسمى في علم النفس «التفكّك» dissociation، وذلك حين تُرضَى النزعات المتناقضة أو المتضاربة بإشباع النقيضين دون السماح لهما بدخول مجال الشعور معًا (انظر المدخل إلى علم النفس الحديث 330)، وهي حالة تتطور في مداها الأقصى إلى الفصام الذي تتدهور فيه القوى العقلية والعاطفية، وقد كانت الذات الشاكرية سائرة نحو هذه الغاية لولا أن تداركتها رحمة الله، هذا ما تشير إليه نصوصه الشعرية خصوصا قصائد «من ديوان البغضاء»، وخاطراته النثرية خصوصا مقال «إلى أين...؟»، وهو ما تشير إليه أيضا سيرته كانكفائه المعروف على ذاته، ذلك الذي يسميه «عزلتي» ويقيم حوله سرديات طويلة في سياق خصوماته النقدية كما في مقدمة كتاب المتنبي، ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ومقالاته المسهبة بعنوان «المتنبي ليتني ما عرفته» (جمهرة مقالاته 2 / 1093 -1189) ومواقفه المتهيّجة التي كادت إحداها أن تودي به إلى الانتحار (انظر مقدمة ديوان «اعصفي يا رياح» 40).
** **
- د. خالد الغامدي