حديثٌ في النَّشأة والأطوار مع فوائد وزوائد.
للنَّحو فضل على العربيَّة وأهلها لا يجحد؛ وله منَّة أيُّ منَّةٍ على علوم العربيَّة الأخرى وبقيَّة العلوم أيضاً إذ به كُتبت، وبه قرئت، وما النَّحو إلَّا قواعد بها ضُبط لسان العرب وحُفظ، وهو أوَّل العلوم الَّتي يتعلَّمها ليضبطها طالب العلم؛ ليحسن قراءة ما يقرأ، ويحسن إذا كتب كتابة ما يكتب، وفضل النَّحو على العلوم الأخرى ظاهر شاهر، فما من مدوَّنة عربيَّة في شتَّى المعارف والعلوم مذ بدأ التَّدوين إلَّا وهي مدوَّنة وفاق قواعد النَّحويِّين، وتصحَّح ألفاظها وتراكيبها على ما قرَّره النَّحويُّون وما دوِّنوه في كتبهم.
لقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام وفي صدره صحيحة اللسان، فصيحة البيان، بليغة التبيان، لم تكن تلحن في كلامها. كانت أرضهم وبلادهم هي جزيرتهم جزيرة العرب، وهي تلك البقعة الَّتي تحدّها الأبحر الثَّلاثة، ويحدّها من الشَّمال سواد العراق وأطراف الشَّأم، كلُّها عربيّة اللسان والإنسان فيها قبائل العرب منتثرة ومنتشرة ما بين أهل الإقامة= أهل القرى، الَّذين يعملون في الزِّراعة والتِّجارة، وأهل ظعنٍ= أهل البوادي أصحاب الإبلِ والشّاءِ، يتتبَّعون مساقط الغيث، وينتجعون الكلأ والعشب، وإذا كان أهل القرى قراهم ثابتة المكان قد قرَّوا فيها، فإنَّ لأهل الظَّعن نصيباً من ذلك أيضاً، إذ لكلِّ قبيلة مضارب تستوطنها معلومة لهم معروفة بهم، ولها حدود تراوح فيها في ظعنهم وإقامتهم.
في هذا الزَّمان والمكان الآنف الذِّكر لم يظهر اللحن على ألسنة أولئك العرب، ولم يطرق مسامعهم أيضًا، ولمّا انداح العرب في بلاد العجم في صدر الإسلام فاتحين لها، وسكنوا تلك البلاد كالعراق والشَّأم خالطوا سكَّانها من غير العرب، والخلطة مؤثرة، حينئذٍ بدأ يطرق السَّمعَ اللحنُ من أهل تلك البلاد الَّذين يحاولون محاكاة العرب في لسانهم، لأنَّ هؤلاء الأعاجم لمَّا تديَّنوا بدين الفاتحين أرادوا أن يلسنوا بلسانهم.
وأصبح أمراً ذا شأنٍ بعدُ، إذ نشأ جيل جديد من أبناء العرب في بلاد غير العرب في البلاد الَّتي افتتحوها، ومع خلطة أبناء العرب بغير العرب من المستعربين بدأ اللحن يتسرَّبُ إلى ألسنة الأبناء، وكذلك حين رام أولئك الأعاجم التعُّربَ بلسان العرب علِقوا من العربية بشيءٍ، لكنَّ عربيَّتهم الَّتي لقِنوها فيها لحنٌ، لم تكن سجيتهم مواتيةً لهذا اللسان؛ لاختلاف سلائقهم عن سلائق العرب الخُلَّص الأقحاح الفصحاء، فمع كثرة أولئك وأولئك أعني الأبناء والمستعربين بدأ يتسرَّب اللحن على ألسنتهم، وما كان محدوداً معدوداً من قبلُ أصبح فاشياً لا يُعدُّ، وبعد حينٍ رحل عن الدَّنيا الكبار الفصحاء الفاتحين، وكبر الصِّغار الجيل الجديد، وقد علق بألسنتهم ما علق من لحن، وجاء جيل جديد، وهكذا دواليك، وأخذ اللحن يزداد شيئاً فشيئاً ويتنوَّع، فمع كلِّ جيلٍ لحونه.
بدأ اللحن كما قلتُ خفيًّا غير ظاهر، ثُمَّ فشا شيئاً فشيئاً، وكانت بداءته في عصر بني أميّة، ثمَّ انتشر اللحن على الألسنة أواخر العصر الأُمويّ وأوَّل عصر بني العبّاس، وقد أصاب قارئ القرآن، فخشي على القرآن وعلى اللسان، فبدأ تقعيد النَّحو للضَّبط.
بدأت نواة علم النَّحو والجهود الأولى في وضعه في العصر الأُمويِّ، كانت على يد أبي الأسود الدُّؤَليّ (67هـ) الذي وضع نقط الإعراب في خطّ المصحف ضبطاً للإعراب، وكانت الكتابة آنذاك لا تضبط بالشَّكل، ثم تلاه تلميذه نصر بن عاصم (89 هـ) فوضع نقط الإعجام وأعانه أو تمَّم عمله يحيى بن يعمر (ت 129هـ)، وكان عمل نصرٍ ضبطًا للحروف المتشابهة في الرَّسم والصَّورة؛ لذا يُسمَّى نصر بن عاصم نصرَ الحروف، وكانت هذه أوائل الجهود لضبط العربيّة، ولم ينتهِ القرن الثَّاني الهجريُّ إلَّا والنَّحو قد اكتمل.
والنَّحو عربيُّ الأصل والنَّشأة، لم يتأثر لا بالنَّحو السُّريانيِّ ولا بالنَّحو الإغريقيِّ كما يَدَّعيه بعض المُحْدَثين من اللغويِّين؛ فبعضهم زعم أنَّه تأثر بنحو السُّريان وبعضهم جعله متأثِّراً بنحو الإغريق اليونان.
بداءة النحّو
بدأ النَّحو على يد أبي الأسود الدُّؤَليّ (67هـ) وتابعه على ذلك تلامذته منهم:
- نصر بن عاصم الليثيّ (89هـ)
- عبد الرحمن بن هرمز (117هـ)
- يحيى بن يعمر (129هـ)
وكانت غاية جهدهم وعنايتهم ونحوهم= هو ضبط أواخر الكلم من غير تبيان السَّبب، الَّذي عُرف بعد ذلك بفن الإعراب، وليس ذلك من ضعفٍ عندهم فهم علماءُ كبارٌ؛ غير أنَّ ذلك هو الَّذي يُحتاج إليه في زمنهم لمقاومة اللحن وعلاجه.
تلا أولئك الأعلام عبد الله بن أبي إسحاق (117هـ)، وعيسى بن عمر الثَّقفيّ (149هـ)، وأبو عمرو بن العلاء التَّميميّ (154هـ)؛ وكان ابن أبي إسحاق مولعًا بالقياس، وكان عيسى بن عمرَ مولعًا بالغريب، أماّ أبو عمرٍو فعربيٌّ صليبةً وكان عالـمًا بلغات العرب، ثم تتلمذ لعيسى بن عمر وأبي عمرٍو الخليلُ بن أحمد الفراهيديّ (175هـ)، وهو أستاذ سيبويه (180هـ) إمامِ أهل البصرة في النَّحو. وظهر في الكوفة معاذ الهرّاء (178هـ)، وهو أستاذ الكسائيّ (189هـ) إمامِ الكوفيِّين في النَّحو.
** بلدتا النَّحو:
البصرة: وهي أقرب إلى بلاد العرب من الكوفة، وكان فيها سوق اسمه سوق المِربَد؛ أصبح ميدانًا لتناشد الأشعار والتَّفاخر، يفد إليه الأعراب للتِّجارة، والمناظرة، والمفاخرة، ويحضره علماء النَّحو ليسمعوا من الأعراب كلامهم، وقد سبقت البصرةُ الكوفةَ إلى النَّحو زهاء (100) عام.
الكوفة: وفيها سوق الكُناسة، ولأنّها أبعد عن بلاد العرب فورود الأعراب إليها أقلُّ من البصرة، فهي أقلُّ وهجًا؛ لأنَّ مَن يرد سوقها منهم أقلُّ فصاحةً لخلطتهم أهل السَّواد.
طبقات أصحاب المذهبين
الطَّبقة
البصريّون
الطَّبقة
الكوفّيون
الطَّبقة الأولى
- أبو الأَسود الدُّؤَليّ (69 هـ)
تلامذة أبي الأَسْود:
- نصر بن عاصم (89هـ)
- عنبسة الفيل (110هـ)
- ميمون الأقرن (117 هـ)
- عبد الرحمن بن هُرمز (117هـ)
- يحيى بن يَعمر (129 هـ)
الطَّبقة الثّانية
-عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ (117هـ)
-أبو عمرو بن العلاء التَّميميّ (154 هـ)
الطَّبقة الثّالثة
- يونس بن حبيب (182 هـ)
- الأخفش الكبير (177هـ)
- الخليل بن أحمد (175 هـ)
الطَّبقة الأولى
- معاذ الهرّاء (178هـ)
- أبو جعفر الرُّؤاسيّ (190هـ)
الطَّبقة الرّابعة
- سيبويه (180 هـ)
الطَّبقة الثّانية
- الكسائيّ (189 هـ)
الطَّبقة الخامسة
- الأخفش الأوسط (215هـ)
الطَّبقة
الثّالثة
- الفرّاء (207 هـ)
الطَّبقة السّادسة
- الجرميّ (225هـ)
- المازنيّ (249 هـ)
الطَّبقة الرّابعة
- هشام الضَّرير (209)
- ابن سعدان (231هـ)
- ابن السِّكِّيت (246 هـ)
الطَّبقة السَّابعة
- المبرَّد (285هـ)
الطَّبقة الخامسة
- ثعلب (291 هـ)
مراحل تطوُّر علم النَّحو
1- مرحلة الوضع والتَّأسيس: تبدأ من أبي الأسود الدُّؤَليّ، وتمتد إلى الخليل بن أحمد، وهي بصريّة بامتياز.
2- مرحلة النُّمو والإبداع: التقى في هذي المرحلة رجال الطَّبقة الثّالثة والرّابعة والخامسة من البصريِّين، ورجال الطَّبقة الأولى والثّانية والثّالثة من الكوفيِّين.
3- مرحلة النُّضوج والكمال: تبدأ بالمازنيّ من الطَّبقة السّادسة البصريّة، وابن السِّكِّيب من الطَّبقة الرّابعة الكوفيّة، وتنتهي بالمبرَّد خاتمة البصريّين، وثعلب خاتمة الكوفيِّين، ومع نهاية القرن الثّالث الهجريّ اكتمل النَّحو العربيّ.
4- مرحلة التَّرجيح والاجتهاد: وهي ما عُرف بعدُ بالمدرسة البغداديِّة حيث اجتمع في بغداد عاصمة الخلافة العبّاسيّة اتباعُ المذهبين، وكثرت فيها المناظرات والمناقشات في مجالس الخلفاء والوزراء بين أتباع هؤلاء وأتباع أولئك، وكذلك في المساجد والحِلَق، وأصبحت بغداد منارًا للعلم وموئلاً للعلماء، وهُجرت البصرة والكوفة.
** سمات غالبة عامّة لكل مذهب من المذهبين:
-البصريُّون: يحُكمون القياس، ويبنون قواعدهم على الفاشي الكثير من لسان العرب، ويتأوَّلون ما خالف ذلك.
** يُؤخذ عليهم: أنَّ ما خالف قواعدهم من السَّماع: إمّا يحكمون عليه بالشُّذوذ إن كان نثرًا، وبالضَّرورة إن كان شعرًا، وإمّا يتكلَّفون في تأويله وتخريجه.
-إذن هم قياسيّون.
-الكوفيون: يكثرون من السَّماع، ويوسِّعون القاعدة بالسَّماع؛ حتى إن كان المسموع قليلاً، أو نادرًا= فهم أوسع مذهبًا في السَّماع.
** يُؤخذ عليهم: أنَّهم لا يتوثَّقون من المسموع، فربَّما كان قائله من العرب غير الفصحاء.
-إذن هم سماعيُّون.
تنبيه: هذه السِّمات على المشهور والغالب المتداول عند المتخصِّصين، ولكلٍّ انفرادات.
** فوائد وزوائد:
(كتب في الخلاف النّحويّ)
1- الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباريّ (ت: 577هـ).
2- التَّبيين عن مذاهب النَّحويِّين لأبي البقاء العُكبَريّ (ت: 616هـ).
(كتب في علل النّحو)
3- الإيضاح في علل النَّحو لأبي القاسم الزَّجّاجيّ (ت: 340هـ).
4- العلل في النَّحو لابن الورّاق (ت: 381هـ).
5- أسرار العربيّة لأبي البركات الأنباريّ (ت: 577هـ).
6- اللباب في علل البناء والإعراب لأبي البقاء العُكْبَريّ (ت: 616هـ).
(موسوعات ثقافيَّة لغويَّة)
7- الخصائص لأبي الفتح ابن جنَّي (ت: 392هـ).
8- المزهر في علوم العربيَّة وأنواعها للسُّيوطيّ (ت:911هـ).
(كتب في أصول النّحو)
9- لمع الأدلّة لأبي البركات الأنباريّ (ت: 577هـ).
10- الإغراب في جدل الإعراب لأبي البركات الأنباري (ت: 577هـ).
11- الاقتراح في أصول النَّحو وجدله للسُّيوطيّ (ت:911هـ).
(موسوعات نحويّة)
12- شرح المفصَّل لابن ي عيش (ت: 643هـ)
13- شرح التَّسهيل لابن مالك (ت: 672هـ).
14- التَّذييل والتَّكميل لأبي حيّان (ت:745هـ).
15- المقاصد الشَّافية في شرح خلاصة الكافية للشَّاطبيِّ (ت: 790هـ).
16- همع الهوامع في شرح جمع الجوامع للسُّيوطيّ (ت: 911هـ).
(أصول وموسوعات صرفيَّة)
17- المنصف شرح تصريف المازنيِّ لابن جنِّي (ت 392هـ).
18- الممتع [الكبير]في التَّصريف لابن عصفور (ت: 669هـ).
19- شرح شافية ابن الحاجب للإستراباذيِّ (ت: 686هـ).
(كتب في حروف المعاني)
20- رصف المباني في شرح حروف المعاني للمالَقيّ (ت:702هـ).
21- الجنى الدَّاني في حروف المعاني للمُراديّ (ت:749هـ).
22- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاريّ (ت: 761هـ).
(متون نحويَّة)
23- الجُمل في النَّحو للزَّجَّاجيِّ (ت: 339هـ).
24- الإيضاح لأبي عليٍّ الفارسيِّ (ت: 377هـ).
25- اللمع في العربيَّة لابن جنِّي (ت 392هـ).
26- الجُمل للجرجانيِّ (ت: 471هـ).
27- المفصَّل في علم العربيَّة للزَّمخشريِّ (ت: 538هـ).
28- الأنموذج في النَّحو للزَّمخشريِّ (ت: 538هـ).
29- الكافية في علم النَّحو لابن الحاجب (ت: 646هـ).
تمَّ بوجازةٍ الحديث عن اللحن والنَّحو السَّبب والدَّافع حديث في النَّشأة والأطوار مع فوائد وزوائد. والحمد لله ربِّ العالمين.
** **
- د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح / كليَّة اللغة العربيَّة - جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com