عرضت في المقالة السابقة أنواعاً من الحشو المستحسن، واليوم أعرض مقابله، وهو (الاكتفاء).
من طريف ما يروى عن الطرماح أنه قال يوما للفرزدق: يا أبا فراس، أنت القائل؟: ^
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
أعز مماذا وأطول مماذا؟ وأذن المؤذن، فقال له الفرزدق:
يا لُكع.. ألا تسمع ما يقول المؤذن (الله أكبر). أكبر مماذا؟ أعظم ماذا؟! فانقطع الطرماح انقطاعا فاضحا. [ابن رشيق: العمدة 1/252]
وهذا من (الاكتفاء)، وقد عده ابن رشيق داخلا في باب المجاز [العمدة 1/250 وما بعدها]، وهو أن يحذف الشاعر من البيت ما يُعلم دون حاجة لذكره. وقد وقع منه في القرآن الكريم والحديث الشريف. وقد يستعمله الناثر والشاعر، بيد أنه في الشعر أكثر.^
ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى..} (31) سورة الرعد أي «لكان هذا القرآن».
ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم قوله للمهاجرين وقد شكروا عنده الأنصار: «أليس قد عرفتم ذلك لهم؟ قالوا: بلى. قال: « فإنَّ ذلك». يريد فإن ذلك مكافأة لهم.
ومن الشعر قول رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى وإنْ
كان فقيرا معدما؟ قالت: وإنْ
أي: وإن كان فقيرا معدما.
وقول جمال الدين بن مطروح يمدح الملك الأشرف:
أنا من يُحدِّثُ عنه في أقطارها
من كان في شكٍّ بهِ فليوقنِ
هذا مقامٌ، لا الفرزدق ماهرٌ
فيه ولا نظراؤه، لكنني
وكقول أحدهم:
راموا فطامي عن هوى
غُذيته طفلا وكهلا
فوضعت في جيبي يديَّ
وقلت: خلوني وإلا..
ولسراج الدين الوراق؛ من شعراء العصر الأيوبي:
يا لائمي في هواها
أفرطتَ في اللوم جهلا
لا يعرف الشوق إلا
..ولا الصبابة إلا..
وللبهاء زهير أبيات يبتر نهايتها طلبا للظرف واعتمادا على فهم المستمع، كقوله:
وارفعِ الستر بيننا
لا تفكر بأنني..
وقوله:
ما مثل شوقيَ شوقٌ
حتى أقول كأنه..
وإنه لشديد
كما علمت وإنه..
وممن أكثروا في هذا الفن - جريا لعادته في الولع بالبديع عامة - صفي الدين الحلي، كقوله:
لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي
ما دمت في قيد الحياة، ولا إذا
أي: ولا إذا مت.
وقوله من قصيدة أخرى:
قالوا ألم تدر أن الحب غايته
سلب الخواطر والألباب؟ قلت لَمِ
أي لم أدر.
وقوله:
ذهب الوفا بعد الصفاء فما عدا
ووعدتموني بالوصال فما الذي؟
ومن الأبيات التي كرر فيها صفي الدين الحلي الاكتفاء، فأضفى عليها طرافة، قوله:
وَليلةٍ زارني فقيهٌ
في رُشدهِ ليسَ بالفقيهِ
رأى بِيُمنايَ كأسَ خمرٍ
فظَلَّ ينأى ويتَّقيهِ
فقلتُ: هلّا، فقال: كلّا
فقلتُ: لِمْ لا، فقال: إيهِ
ما ذاكَ فنّي، فقلتُ: إني
أَنزِّهُ الكأسَ عن سفيهِ
وقد يكون المحذوف كلمة أو جملة، كما مر في الأمثلة المتقدمة، وقد يكون جزءا من كلمة، كقول الشاعر ابن مكانس، وأورده صاحب الكشكول [1/128]:
لله ظبي زارني في الدجى
مستوطنا ممتطيا بالخفرْ
فلم يقم إلا بمقدار أن
قلت له: أهلا وسهلا ومَرْ
أي: ومرحبا.
وحذف جزء من كلمة نادر، ولم يعده ابن رشيق من الاكتفاء؛ بل هو عنده حذف للضرورة. وذكره سيبويه في كتابه تحت عنوان (ما يحتمل الشعر). ومن أشهر أمثلته المتداولة قول لبيد:
^
درس المَنَا بمتالعٍ فأبان
أراد (المنازل).
ولم يزل شعراؤنا المعاصرون يُحلُّون قصائدهم بشيء من هذا الفن، كما فعل الشاعر اليمني ياسين البكالي حين قال:
وأنَّ لإبَّ ذاكرةٌ ستَنسى
مثالبَه وتذكرُ أنَّ جِبلة ...
و(جِبلة) قرية تابعة للواء (إب).
ومثله ما قال السيد الشخص في ختام مقطوعة وجهها لناجي بن داود الحرز:
^
فاقبل الآن اعتذاري
يا ابن داود، وإلا...
وقول الشاعر الدكتور سعود اليوسف:
قطفنا كرمة النجمات سُكْرا
وداعبنا الكواكبَ أو كأنَّا...
وتقول شقراء المدخلية؛ وقد جعلت الحذف في وسط البيت، وليس في القافية كما جرت عادة الشعراء:
وحدي هنالك ليس ثمة باب
غاب الذين.... وغابت الأسباب
ومثله لكاتب المقال، ولعله يكون مناسبا لختامه:
فإنْ أجدتُ فهذا ما أُؤمِّلُهُ
أوْ لمْ .. فإنِّيَ أرجو منكمُ العُذْرا
** **
- سعد عبد الله الغريبي