أ.د.عثمان بن صالح العامر
ابتلي العالم أجمع - كما هو معلوم - بجائحة كورونا، التي تولد عنها نمط من الحياة مختلف عمّا كان في السابق حتى ذاعت تلك المقولة المشهورة (لن تكون الحياة بعد كورونا كما كانت قبل كوفيد 19) فهو حدث مفصلي في تاريخ البشرية قاطبة، أربك الاقتصاد، وأثر في السياسة والاجتماع، وغير أنماط التربية والتعليم. وما يعنيني هنا النمط التعليمي الجديد (التعليم عن بعد) الذي تولد جبراً عن هذا الوباء المخيف، الذي سبقت فيه المملكة العربية السعودية كثيراً من دول العالم المتقدم، بل قدمت تجربة رائدة رائعة تستحق تخليدها وعدم التفريط بها حتى بعد انتهاء الجائحة خاصة في المرحلة الجامعية وعلى وجه أخص في الدراسات العليا (مرحلة الماجستير والدكتوراه).
قد لا يكون التعليم عن بعد هو الخيار الأنفع والأنسب والأفضل في مراحل التعليم العام المختلفة، ولا هو مناسب لتدريس التخصصات الطبية والهندسية والتقنية والعلمية في المرحلة الجامعية (البكالوريوس)، بل حتى في الدراسات العليا، لكنه في نظري يمكن أن يكون هو الخيار الأمثل لتدريس جميع التخصصات الإنسانية سواء الشرعية أو النفسية أو الاجتماعية أو الإدارية في المرحلة الجامعية عموماً والدراسات العليا على وجه أخص، فهذا النوع من التعليم سيتيح للطالب والطالبة الالتحاق ببرامج الدراسات العليا في هذا التخصصات دون تكبده عناء الانتقال من منطقة لأخرى، وسيوفر فرصة دراسة للمعيدين والمعيدات والمحاضرين والمحاضرات من الجامعات الناشئة في الجامعات الأم مع بقائهم في مقار عملهم والاستفادة منهم في بعض الأعمال الخفيفة، فضلاً عن استفادتهم هم من زملاء التخصص في جامعتهم أثناء دراساتهم العليا، وسيكون منه وفورات اقتصادية للجامعات ذات القدرة على ضمان جودة التعليم عن بعد، مع اشتراط الحضور أيام الامتحانات وحين المناقشات والسمنارات، وربط الطالب والطالبة برئاسة القسم الذي يدرس فيه، ومتابعة المشرف أو المرشد له بشكل دائم، طوال سنوات الدراسة وحين إعداد الخطة وكتابة الرسالة وصولاً للحظة المناقشة وإعلان النتيجة.
ولكن حتى يكون هذا المقترح محققاً للهدف المنشود من ضرورة الحضور طوال فترة الدراسة لمرحلة الماجستير أو الدكتوراه، يشترط في الأكاديمي استاذ الدراسات العليا أن يجيد فن الإقناع والتأثير عن بعد في ظل غياب لغة الجسد، وأن يكون ذا ثقافة واسعة بها يقدر على إيصال المعلومة بشكل مختلف عن الحال في قاعة الدرس، فقد يستمع له آخرون وجدوا بحكم جلوس هذا الطالب أو الطالبة بينهم إبان إلقاء الدكتور المحاضرة، والشرط الأهم أن يكون متمكناً بشكل قوي في مادته العلمية ومستعداً للإجابة عن أي سؤال يطرح سواء أكان من الطالب بصورة مباشرة أو ربما املاه غيره عليه لحظة الحوار والمناقشة في وقت المحاضرة، وفي ذات الوقت متقناً فن اللقاء عن بعد، ويملك مهارة ممتازة في التعامل مع القاعات الافتراضية، وبهذا تتمكن كثير من جامعاتنا الناشئة حل مشكلة إكمال منسوبيها دراساتهم العليا جراء محدودية المقاعد المخصصة للدراسات العليا، وصعوبة انتقال المعيدة والمحاضرة خاصة من مدينتها للرياض أو جده أو الشرقية لنيل درجة الماجستير والدكتوراه.
نعم .. من الخطأ في ظني أن نحكم ونحاكم التعليم عن بعد على أنه حالة واحدة دون التفريق بين المراحل التعليمية والتخصصات العلمية، فهو وإن كان كما سبق وأن أشرت أعلاه لا يناسب مراحل التعليم العام من الروضة وحتى الثانوية ولا يناسب كذلك التخصصات العلمية في المرحلة الجامعية والدراسات العليا إلا أنه حسب اعتقادي مجدٍ ونافع والخيار الأمثل للدراسات العليا في العلوم الإنسانية على وجه العموم، حفظ الله الجميع ووفقنا لكل خير وإلى لقاء والسلام.