محمد سليمان العنقري
قد يستغرب الكثير ما الذي يدعو دولة كبرى مثل روسيا للتصادم مع قوى عظمى مثل حلف الناتو الذي تقوده أميركا ومعها بريطانيا وفرنسا وباقي دول أوروبا الغربية في وقت لم يخرج العالم من تداعيات الأزمة الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا بيقين كامل، حيث إن متحورات الفايروس التي تظهر من فترة لأخرى ما زالت تشكِّل قلقاً عالمياً حتى مع إنتاج اللقاحات والعلاجات وترخيصها وتوزيعها فما يحدث في شرق قارة أوروبا من حشد للجيوش الروسية والأوكرانية وتحركات حلف الناتو ينذر بوقوع نزاع عسكري بين دول تمتلك أكبر وأحدث ترسانة عسكرية بالعالم فهما القوتان الأولى والثانية على التوالي فروسيا الوريث الذي تحمل التركة الثقيلة للاتحاد السوفييتي الذي تفكك العام 1991م تبحث عن حفظ أمنها القومي إذا ما تم حصر الأزمة بينها وبين أوكرانيا، حيث تطلب ثاني أقوى دولة للعالم عسكرياً وهي روسيا تعهدات بعدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو مع مطالب عديدة تضمن لها أمنها فلا يمكن للكرملين أن يقبل بأن يطل الناتو على نوافذه من شرفة أوكرانيا ويصبح أمنه في حالة عدم يقين حتى مع كل ما يملك من قوة فحدوث ذلك يمثِّل حصاراً عملياً لروسيا على الأقل هذا ما يمكن قراءته من المشهد المعقد للأزمة والذي مال له أغلب محللي السياسة في الغرب وكذلك روسيا.
لكن إذا ما تم استبعاد القراءة الآنية للحدث والذهاب باتجاه آخر لمعرفة أسباب توقيت التحرك الروسي خصوصاً أن ملف أزمة كييف مع موسكو ليس بالجديد فمنذ العام 2014 وهو مشتعل بعد ضم جزيرة القرم لروسيا واتهام أوكرانيا للكرملين بدعم الانفصاليين في إقليم دونياس شرق أوكرانيا فالتحرك الحالي يظهر أن الدبلوماسية فقدت قدرتها على احتواء الأزمة فكل طرف متمسك بتوجهاته ومطالبه إلا أنه وفي ظل التحديات الاقتصادية عالمياً وارتفاع التضخم وإشكاليات سلاسل الإمداد بسبب ما حدث من إقفال اقتصادي كبير لمنع تفشي فيروس كورونا يجعل التساؤل عن رهانات روسيا لتحركها الحالي هو ما يشغل ماكينات الإعلام عالمياً فمنطقياً يمثّل أي تصعيد أو حرب من أي نوع عسكرية أو اقتصادية مستغرباً، فالعالم يتوقّع تكاتفاً أكبر لمنع الانزلاق نحو «ركود تضخمي» مما يعني تكلفة باهظة سيدفعها الاقتصاد العالمي للخروج منه بالإضافة لوقف موجات تفشي فايروس كورونا ومتحوراته المتلاحقة فهل أجبرت روسيا على هذا التحرك العسكري الضخم والتوقعات بغزوها أوكرانيا الذي تردده دول الناتو والكثير من محللين عسكريين وسياسيين في وسائل الإعلام العالمية، فالمشهد العالمي يخبر بالكثير عن رهانات موسكو وعدم مبالاتها بكل التهديدات الغربية بفرض عقوبات اقتصادية عليها وبمد الماتو لأوكرانيا بالسلاح، فالبعد الإستراتيجي لهذا التحرك يبدو واضحاً ويتجلّى بما بعد تحقيق أهداف هذا التحرك الذي وإن انتهى بفرض شروط روسيا بالدبلوماسية التي تعيش رمقها الأخير أو من خلال تحرك عسكري فإن ما بعد ذلك قد يكون هو إعادة إحياء تحالف روسي يجمعها مع دول عديدة محيطة بها ولها مصالح مشتركة لتشكيل قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية تكون نداً لحلف الناتو وللقوى الاقتصادية الغربية المتمثلة بأميركا والاتحاد الأوروبي.
فالرهان الذي يبدو واضحاً هو حالة الاقتصاد العالمي التي قد تراها روسيا مانعاً كبيراً لقيام دول الناتو بأي رد عسكري فما يشغلهم هو الخروج الكامل من نفق الأزمة الاقتصادية التي فرضها فايروس كورونا على العالم، إذ ترى روسيا نفسها مستعدة أكثر من أي وقت للتحرك نحو أهدافها بحماية أمنها القومي والانطلاق نحو آفاق اقتصادية واسعة تستثمر لها إمكانياتها غير المستغلة بوجود احتياطيات مالية تقدَّر بحوالي 600 مليار دولار وبنائها لشراكات مع الصين في مجال الطاقة طويلة الأمد إضافة لتحالفها مع دول أوبك في استعادة التوازن لسوق النفط وكونها من أكبر المنتجين والمصدرين فهي مستفيدة من الأسعار الحالية عند 90 دولاراً إضافة لكونها أكبر منتج للغاز بالعالم الذي تضاعف سعره حوالي 400 بالمائة منذ عامين، حيث تمد أوروبا بحوالي 40 بالمائة من احتياجها من الغاز مما يوفر لها عوائد مالية ضخمة وبعداً إستراتيجياً جعل أوروبا تنقسم في التعامل مع أزمة أوكرانيا، حيث ترفض بعض الدول أي دعم عسكري لأوكرانيا مثلما قررت ألمانيا أكبر مستوردي الغاز الروسي، كما أن عين روسيا على أميركا فهي من يمكنها أن تقف في وجهها لأنها القوة الأولى بالعالم، إذ يظهر الموقف الأميريكي هشاً بنظر المجتمع الدولي حتى اللحظة، إذ اكتفت بإرسال بضعة أطنان من السلاح لكييف ووعدت بإرسال قوات لبعض دول الناتو في أوروبا الشرقية إضافة لتوعّدها موسكو بعقوبات كبرى، فواشنطن لديها مشاكلها التي تعيها روسيا جيداً منها توجيه جل قدراتها لمواجهة خطر التفوق الصيني في كافة النواحي وتسارع نمو اقتصادها، إذ باتت ثاني اقتصاد بالعالم وتتطور تكنولوجياً إضافة لكونها مثقلة بالديون بعد أزمتي كورونا الحالية والأزمة المالية العالمية 2008 ، حيث وصلت ديون أميركا السيادية لما يقارب 28 تريليون دولار أي أكبر من ناتجها الإجمالي ولديها عجز تجاري مع العالم يقارب تريليون دولار سنوياً إضافة لانقسامات بالمحتمع السياسي الأمريكي بعد خسارة الرئيس ترمب لسباق الرئاسة الذي فاز به الرئيس بايدن، فواشنطن لا تبدو قادرة على التواجد في كل ملف أو أزمة عالمية كما في السابق أي قبل عقود، كما أن ما تعانيه أوروبا الغربية من إشكاليات هددت اتحادها مراراً كان آخرها انسحاب بريطانيا منه مما يجعل التباين بالمصالح واضحاً بينهم بالإضافة لكون روسيا لديها أيضاً دعم دولي لمطالبها المحقة بحماية أمنها من وجهة نظر دول عيدة بالعالم بينها قوى اقتصادية وسياسية كبرى كل ذلك يجعل رهانات روسيا على خطواتها التي أقرتها وتحركت بها أكثر ترجيحاً لنجاحها في ما تسعى إليه وفق حساباتها.
الرهانات الروسية ليست هذه فقط، بل هي عديدة منها مصالحها مع دول بالشرق الأوسط وإفريقيا ومناطق جغرافية عديدة بالعالم كل ذلك يعد مؤشراً على أن العالم في مرحلة دقيقة من إعادة تشكيل موازين القوى فيه من كافة النواحي فهل تتحقق مساعي روسيا لبناء مرحلة جديدة من دورها الدولي أم أن تداعيات الأزمة وأي تحركات من حلف الناتو قد تكون مفاجأة خصوصاً في شق العقوبات الاقتصادية قد تمثّل ضغطاً لا يمكن لروسيا تحمله مستقبلاً مما ينزع فتيل الحرب ويذهب باتجاه الحلول الدبلوماسية، فهذا ما سيكون العامل الأكبر الذي سيسود المشهد الدولي للأسابيع القادمة.