راح الكتاب -في العصر الحديث- والناشرون يتفننون في صياغة عتبات مطبوعاتهم الأولى من عنوانات وإهداءات ومقدمات، فضلاً عن شكل الغلاف وكلمة الناشر، بل حتى في الرسم التشكيلي الذي يوضع على غلاف الكتاب -وبالتحديد بعد نضج فكرة التداخل الأجناسي بين الفنون المختلفة، ومنها بين التشكيل والأدب- وغيرها مما أطلقت عليه المقاربات السيميائية الحديثة (علم العنونة)، وصيرت له نظرية خاصة به ورائدا يشار إليه بالبنان هو الناقد الهولندي (ليو هوك)، وتتأتى أهمية هذه العناصر التي أطلق عليها جيرارجنيت تسمية (النص الموازي)، أو عتبات النص، على وجه خاص العنوان - من كونها تشغل منطقة استراتيجية في عملية التلقي، هي المنطقة الأولى بصريا ودلاليا، تلك المنطقة التي يحدث فيها التصادم الأول بين القارئ، والعمل الأدبي، وفي ضوء ذلك امتلكت هذه العناصر وظيفة خطرة هي قيادة القارئ إلى جغرافية العمل الأدبي ومنحه مفاتيح استكشافه وإضاءة مجاهله، ولا سيما أن رولان بارت قد وسع مفهوم السيمياء، فلم يعد محددا -كما يرى دي سوسير- بالعلامة اللسانية، بل بكل ما هو لفظي، أي محاولة تطبيق اللغة على الأنساق غير اللفظية كالأساطير، والأزياء، ولون الغلاف، والرسم التشكيلي الذي يطرزه وغيرها، فجعل السيمياء فرعا من اللسانيات وليس العكس، فقد صارت السيمياء، ذلك العلم الذي يهتم بالإشارة مهما كان نوعها، طقوسا، رموزا، عادات، كلمات، ملابسا، ديكورات، طعاما، وكل ما من شأنه أن يحمل انطباعا رمزيا أو دلاليا، ومما لاشك فيه أن العنوان بوجه خاص يمثل قمة هذه العتبات، بل هو أخطرها، إذ يكفي تخطيه لمسك خيوط العمل أو النص الأساسية، فهو نص قصير يختزل نصا طويلا، وهو المفتاح الذي يفتح الأبواب التي تفضي إلى العالم الذي نريد اكتشافه، فهو بنية رحمية تتولد منها معظم دلالات العمل أو النص الأدبي، وتكفي القارئ نظرة يسيرة عليه ليتعرف منها محتوى ذلك العمل أو النص، لقد تنبه كتاب القصة إلى خطورة العنوان في البناء الفني، فراحوا يتأنقون في صياغته، واختياره استجابة لوصايا نقادهم، حتى أنهم استهلكوا في صياغته، واختياره ضعف الوقت الذي استهلكوه في كتابة قصصهم، ذلك لأن عملية اختيار العنوان القصصي ليس بالعمل اليسير، تلك التي يكتشف فيها القاص حسن علي البطران عنوانا لمجموعته القصصية الجديدة، لأنه في الحقيقة يكتشف عالمه القصصي، وعلى نحو عام أن العنوانات القصصية غالبا ما تلخص فكرة العل القصصي نفسه، أن العنوان القصصي يأتي أما على عبارة لغوية، أو رقما، وربما يأتيان معا، وأخيرا لابد لنا من الإشارة إلى أن كتاب القصة القصيرة يسلكون طريقين في اختيار عنوانات مجاميعهم القصصية هما: الاستعانة بعنوان إحدى القصص لجعلها العنوان الرئيس للمجموعة بأكملها، وهذه القصة أما أن تكون أحدث زمناً أو أكثر قصص المجموعة تطوراً من الجانب الفني، أو أشهرها، أو أكثرها ذيوعاً، أو أن عنوانها يتسم بعنصر جمالي أو دلالي يؤهله لأن يكون عنواناً للمجموعة برمتها، والطريق الثاني انصرافهم إلى عنوان آخر ينتزعونه من السياق العام للمجموعة القصصية، وهو ما فعله القاص حسن علي البطران عند اختياره عنوانات لمجموعته القصصية الجديدة، والجميلة وهي تحمل عنوانا رومانسيا جميلا (وأجري خلف خولة)، وكان الزمن -زمنها- هو زمن، أمل الإنسانية في حياة، فقد كانت الإيقاعات راقصة لذلك الزمن الذي عاشه القاص في حقيقته أم في خياله كان زمنا راقصا بالحب والجمال والرقة، بقي العنوان، قد يرتبط بالشخصية أو لا يرتبط تماما، فهناك عنوانات بعض القصص باسم إحدى شخصياتها، وقد يكون العنوان لا يحمل اسم شخصية من شخصيات القصة، كما يبين إحجامه عن تقييد القارئ بعنوان ربما يوجه اهتمامه نحو مظهر من القصة دون آخر، اعتقادا منه أن العنوان يمثل جزءا حيويا من بنية النص إلى جانب كونه مفتاحا تأويليا، والعنوان في تركيبته التأويلية ينبئ عن علم مكتظ من العلامات، والشفرات التي تتحول إلى دوائر تدور حول بعضها مثيرا عددا غير قليل من الدلالات، والبنى الإيحائية، عنوان المجموعة القصيرة (وأجري خلف خولة) يظهر قاصرا على أقصوصته الأولى، وليس قاسما مشتركا لها، ووحدانية -القص- بوصفها كيانات، تحتسب لصالح -الحكاء- مع تكامل الصور لترسيمها عملا إبداعيا (إنتاج مادي، وروحي)، وتطابق مجريات المتغيرات التي تحدث داخل المشاهد التصويرية سواء أكانت فاعلة أم هامشية حقيقة كانت أو مفتعلة، إن النص الذي يأسر القاص حسن علي البطران، ويدفعه لخلقه، ورميه إلى ذائقة المتلقي هو النص المتماوج على حدة اللغة، وقسوة الصورة، والإيغال في تشظيات النفس الإنسانية، هذه الركائز الثلاث هي ما يستطيع الوقوف على أثافيها ليخرج باعتقاد أن القاص يحتفظ بخزين وفير من القدرة على السرد، واقتناص الموضوع بيسر، وعرض النص بما قد لا يريح المتلقي، ويترك في نفس القارئ فسحة للابتهاج، نص البطران هو نص الشفرة التيا تترك ألما بل تصنع جرحا يحتاج القارئ لوقت غير قصير كي يشفى من صراخه، أن عنوان المجموعة القصصية للقاص حسن البطران تعطينا دلالات نقدية سيميائية تدل على مضامين المجموعة القصصية، والقاص، ومن خلال استنطاق قصصه نجد النص الذي يريده القاص البطران محمولا بالدلالات، لا بد أن يأتي مستلا من تفاصيل سلوكيات اجتماعية ارتأى إحضارها من أزمنة مختلفة في العلائق، ومتفاوتة في التشابكات، فهو يستعين بالشخصيات التاريخية استحضارا للحكمة، ويتكئ على شخوص الحاضر معطيا إياها دور الباحث المتفاعل الذي سيخرج بحصيلة تتكرس مدلولات تسهم في فائدة البشرية في التعامل، والحكم، إنه يمنح المتلقي أبواباً متعددة مواربة للقراءة، والتأويل اعتماداً على كون النص كرة كريستالية تبث الدلالات التي تستنهض رؤى المتلقي فتثير فيه مهمة البحث عن الشفرات، فهو يستعين بخولة في نصوص المجموعة كلها، فنراه يقول: أحبها منذ الطفولة، فلما أعلن عن حبه لها، ارتجفت وطلبت منه الكتمان، وعدها به..، لكنه عاش عازبا حينما صعق بخبر جنونها..!، وهي تبتسم للحياة بملء شدقيها، فسرقته من هذه اللحظات الممتعة طرقات أخرى يتذكرها الآن جيداً، يحسن الناص السرد المختزل لإنتاج قصة قصيرة جداً مستلاً الفحوى من نسيج الواقع.
** **
أ.د. مصطفى لطيف عارف - ناقد وقاص عراقي