عبدالوهاب الفايز
أربعون عامًا مضت على بداية الإحساس بالمشكلة الكبيرة للأحياء العشوائية التي نمت وترعرعت في أحضان العروس!
مما أتذكره من أيام الدراسة الحافلة بالذكريات الجميلة في جامعة الملك عبدالعزيز قبل ثلاثة عقود هو وضع الأحياء العشوائية.. بالذات الحي صاحب الاسم الذي يحمل غموض الأشياء الإيحائية الغريبة (الكرنتينه)! كانت القصص والحكايات التي نسمعها من الناس حول هذا الحي خليط من الأسطورة والواقعية السحرية على طريقة كتاب الرواية في أمريكا الجنوبية المحلقين. وكانت الحكاية تبلغ الذروة الدرامية المخيفة عندما يقول لك الراوي: «انتبه تروح هناك.. يذبحوك»!
وكان الموقف الآخر الحاضر بالذاكرة هو رأي مدير الدفاع المدني في منطقة مكة المكرمة حينئذ. كنت أسعى بإعداد تحقيق صحفي عن أوضاع الحياة في العشوائيات، وكان ضرورياً الاستماع لرأي الجهة الساهرة على السلامة المدنية. قال بصوت لمست فيه عميق الإحساس بالمسؤولية والخوف: (يا ابني كل ليلة أنام وأنا يدي على قلبي. هذا الحي خطير (الكرنتينه) لأنه قريب من المصفاة، ونخشى أن تقع كارثة مدمرة للناس)!
فعلاً، كانت العشوائيات كارثة المدينة التي استمرت لأربعة عقود وراح ضحيتها جيل من سكانها، وجيل ممن صُدرت لهم سمومها، وتبعات كل المخالفات فيها! الزائر إلى جدة هذه الأيام يرى الناس سعداء وغير مصدقين ما يحدث، يقول لك صديقك: (انظر هنا، أكوام الأسمنت، يا حبيبي خلاص راحت، الحمد لله). كابوس العشوائيات، الذي ظل (ورماً سرطانياً) في جسد المدينة يأتي القرار الحازم لإزالته.
منذ عشرين عامًا بدأت خطورة الأحياء العشوائية تبرز، ليتم تصنيفها كمرض خطير على بلادنا، بل قضية وجودية مهددة لأمننا الاجتماعي واستقرارنا. كانت مصدر استغلال واسع لتجارة المخدرات والبغاء وتصنيع البضائع المغشوشة ومكانًا آمنًا لغسل الأموال، ومصدراً لإيواء الإرهابيين والمجرمين. والأسوأ الذي كان يؤلمنا، أن هناك من استغل أوضاع الحياة الصعبة في العشوائيات لكي يقول للعالم: انظروا، هذه حياة السعوديين!
حياة السكان الصعبة فيها كانت تسرب إلى الصحافة العالمية وتُستغل ضد بلادنا، ومن تصله أوضاعها قد لا يعرف أن أكثر من 90 بالمئة من سكانها غير سعوديين.
طبعاً أوضاعهم الصعبة لم نقبلها أو نرضاها لهم، وكانت فعلاً ظروفهم صعبة. وهذا دفع الجمعيات الخيرية منذ سنوات لتقوم بجهود خارقة للمساعدة في الخدمات الإنسانية والاجتماعية. عندما جاءت جائحة كورنا تم التغاضي عن الأوضاع غير النظامية للمقيمين فيها، وتمت دعوتهم للتطعيم. كما أن بعض الجمعيات الخيرية في الرياض وجدة ركزت جهدها منذ سنوات لإنقاذ الأطفال والمرهقين من أسرهم المفككة، فالأب مدمن مخدرات والأم الله أعلم بحالها.
إزالة العشوائيات ضروري، فمدينة جدة تستعد لنقلة عمرانية ومشاريع نوعية جديدة، وهذه النقلة لا تحتمل وجود الأحياء العشوائية شوكة في خاصرة سكانها. جدة منهكة بتبعات 63 حيًا عشوائيًا، والتأخر في معالجة أوضاعها يهدر مكاسب البناء، وسوف يقضي على الروح الخاصة لمدينة جدة وتاريخها العريق. وهذا دافع سكان جدة حين يتصدون بقوة للمرجفين في الأرض الذين أرادوا تعطيل مشروع الإزالة كدأب سابقيهم من المفسدين في الأرض. الآن نحن في حقبة ملامحها واضحة: الحكومة لن تتهاون في الملفات المهمة لحياة المواطنين، والناس أصبحوا أكثر وعيًا وإدراكًا لمصالحهم. لن تتلاعب بهم حسابات الفتنة والظلام في التواصل الاجتماعي.
هل الدولة تأخرت في مشروع الإزالة؟ نعم، لأن هناك من قال إن سكان الأحياء من المواطنين لن يجدوا البديل لمنازلهم. وهنا كان حسن الظن ضروريًا لأن المبدأ في الحكم هو: الحلم والرحمة والصبر حتى تتضح الأمور. لذا تم التخطيط لتنفيذ الإزالة بالتدرج وعبر خطة زمنية واضحة حتى يتمكن السكان من تدبير المنزل البديل بدعم من الدولة. طبعًا الذين تأخروا ربما ظنوا أن الأمر كحال السنوات الماضية، حيث (تساهلت الأجهزة الحكومية في تنفيذ الأنظمة) ورحلت ملف المشكلة المؤلمة. في الوضع الحالي، لم يُترك الناس يواجهون ظروفهم، بل سارعت الأجهزة الحكومية إلى المساعدة، وتحريك جهود الجمعيات الأهلية والخيرية لمساعدة الناس لإيجاد البديل للمساكن والمرافق الضرورية.
المنافع لمحافظة جدة وما حولها ستكون عديدة، وسوف تساعد على تطوير اقتصادياتها. الأحياء التي تمت إزالتها سوف يتم إعادة إعمارها وهذا يعظم من استثمار البنية الأساسية في وسط المدينة مما يحقق الاستفادة لأصحاب العقارات التي أخلوها وتركوها للعمالة. والأهم، القضاء على الأوكار الحاضنة للجريمة المنظمة وكل مهددات الأمن الوطني. الأحياء العشوائية من أهم التحديات التي ظلت تواجه المدن الكبرى في الكثير من الدول.
والآن، بحول الله، سوف نقلب تحدي العشوائيات في مدننا إلى فرص جديدة في البناء والتنمية وإيجاد مقومات الحياة الكريمة لكل من يعيش في بلادنا. العشوائيات التي كانت قصص الحياة فيها تؤلمنا وترعبنا.. سوف تكون من قصص الماضي. سوف يخرج من ركام الأسمنت والطين عالم جديد. الآن ماذا نقول عن واجهة جدة البحرية، حينما نتذكر الكورنيش القديم، نقول بسعادة: لدينا أجمل واجهة بحرية في العالم!