رمضان جريدي العنزي
من خلف بسطتها الخشبية، بائعة الشاي تفرد نظرتها صوب الحلم والغد، واقفة بمحاذاة الرصيف، شعلة من عمل، وحدها في صدرها براكين الوجع وأمنيات التطلع، مثل فراشة تحترق بجمر الألق، هي الحياة غلظة فظة، وفيها دبيب وفيها حفر، لكنه العمل وزغب الحواصل والمنى، ما غرها هديل الحمام، ولا عروق الغمام، والضجر عندها مسامير مؤلمة، طافحة بالحلم، والموجودات كسيحة، أسلمت جسدها للريح في مساءات الشتاء، ما عندها فراش ذهبي، ولا سرير وثير، عندها شيء واحد هو القلق، هو خبزها وماؤها وشايها الذي تبيع، مفرطة بالتأمل، تبحث عن شرفة عالية، مفرطة بالألم النشيط، كنشاط النمل في عتمات ليل الصيف البهيم، وحدها إلا من أبريق الشاي، والجمر المتقد، وقوارير الماء، وحبات الكستناء المشوية، وورق نعناع وحبق، وحدها مثل بيت مهجور، ورسالة منسية، وسور قديم، وشجرة في بيداء نائية، وحدها في فراغ الليل، والمسافة بينها وبين الحلم المبتغى بعيدة، من أول ولها لآخر أنفاسها تجر المواويل العتيقة، وروحها تجهش في الفلوات، ولها قلب مثقوب بالوجع، تطارح شغفها مع شظف الحياة، وترمي حجراً في بحيرة أحلامها الضئيلة، امرأة بقلب طفل يطارد الفراشات الصغيرة، تجمل حلمها، أوله كحل، وآخره حناء، لكنها تعاني من ضربة شمس، وضربة سوط، وقلة حيلة، وحلم تراه من وراء الضباب، تحمل همها الثقيل على ظهرها المكسور، وتطوف به من على الأرصفة، امرأة مدهشة، مثل مهرة جامحة، وصبرها طويل، تريد أن تكون ظلاً لمعنى، وعنوانًا بارزًا يقرأه العابرون، تريد أن تكون زهرة تين، وجذع نخلة، تريد أن تكون قمحاً لزغب الحواصل التي عندها، تريد أن تكون قصيدة حاضرة في خاصرة الزمن، نهراً تريد أن تكون يفيض على الآخرين الماء، تريد أن تكون رائحة نعناع وبن وحبق، تريد أن تكون نجمة تخبر الساهرين عن قصة التحدي والمعاناة، وكيف أن امرأة تبيع الشاي قادرة على أن تهزم الرياح العاتية بزمهريرها والسموم.