إذا نظرنا إلى مدينة الدرعية التي أسسها جد أسرة آل سعود الأمير مانع المريدي سنة 850هـ - 1446م لوجدنا أنها منذ نشأتها وهي مدينة تحمل في داخلها مقومات الدولة الحضارية، فلها زعامة سياسية، ونسبة سكان كبيرة، وتتبع لها قرى ومزارع تمكنها من تحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض إلى بلدان نجد المجاورة لها، وهي ذات موقع إستراتيجي تقع على وادي حنيفة ومفترق طرق الحج والتجارة.
ولعل مما يتبادر إلى الذهن عند القراءة المتعمقة لنشأة الدرعية وما أفضت إليه هذه المدينة - فيما بعد - من دولة قوية وعميقة، هو مفهوم المدينة الإغريقية أو ما عرف بمفهوم دولة المدينة (CITY STATE)، ذلك المفهوم اليوناني الكلاسيكي الذي يعود إلى حوالي خمسمائة سنة قبل الميلاد، ففي شبه جزيرة اليونان تشكلت مدن عدة من أبرزها: (أثينا، اسبرطة، مقدونيا)، وشكل كل واحدة منها كيانًا سياسيًا مستقلاً، فكانت كناية عن دويلات صغيرة مستقلة.
ولو نظرنا إلى هذه القوة الإستراتيجية والاقتصادية المتمثلة في موقع الدرعية، وكذلك القوة السياسية المتمثلة في مانع المريدي وأبنائه وأحفاده من بعده، التي جعلتهم يمارسون نظام الحكم والسيطرة على طرق الحج والتجارة وفرض النظام والأمن والدفاع عن الدرعية، في وقت أعقب انهيار الدولة الإسلامية على يد المغول، وتقسمت فيه الإمبراطورية الإسلامية إلى ممالك مستقلة، كل ذلك يدلنا على أن حلم بناء كيان سياسي في الجزيرة العربية كان موجودًا لدى أبنائها.
وكان الأمير مانع المريدي وأبناؤه وأحفاده من بعده حريصين على حماية الدرعية والقوافل المارة بها، ولأجل ذلك عقدوا المعاهدات المتعلقة بتأمين تلك القوافل مع قبائل نجد وأمراء بلدانها.
ويقول ابن بشر: «ثم إنه لما مات مانع المريدي تولى بعده ابنه ربيعة، وصار له شهرة وكثر جيرانه..، ثم ظهر ابنه موسى بن ربيعة، وصار أشهر من أبيه..، ولما مات تولى ابنه إبراهيم، وكان لإبراهيم أربعة أولاد منهم عبدالرحمن الذي نزل ضرما ونواحيها واستقرت فيها ذريته، ومنهم سيف جد آل أبي يحيى أهل بلد أبا الكباش، ومن أولاد إبراهيم عبد الله وله ذرية منهم آل وطيب وآل حسين وآل عيسى، ومنهم أيضاً مرخان وابناه هما ربيعة ومقرن، فأما ربيعة فهو جد رؤساء بلد الزبير».
وهذا يعطينا مؤشرًا على أن العائلة مليئة بالزعامات الذين توزعوا وانتشروا في بلدان نجد وخارجها، ولا أعتقد بصحة القول إن سبب النزوح والانتشار عائد إلى أن الدرعية ضاقت بهم فالتمسوا أماكن يطلبون الرزق فيها، إذْ إن الدرعية اتسعت لأعداد مضاعفة في وقت لاحق.
ولو أن الدرعية ضاقت بأهلها لنزح عامة أهلها المعوزون لا عليّة أهلها؛ إنما هو عائد إلى البحث عن الزعامة في بلدان نجد والصراع حولها، وأن هناك طموحًا للسيطرة على هذه البلدان وربما توحيدها في دولة واحدة مستقبلاً، لا سيما وقد ذكر بعض المؤرخين أن فكرة إنشاء الدولة كانت واضحة في وقت مبكر جداً، وأن إبراهيم بن موسى كان يُلقب بأمير نجد، ولهذا توزع أبناؤه كما ورد، ولم يرتبط هؤلاء الحكام بالقوى المجاورة لهم بصلات كي يحققوا هذه الأهداف.
هذا السلوك الذي انتهجه الأمير مانع المريدي وأبناؤه وأحفاده من بعده كوّن لديهم رصيداً من الخبرات السياسية والإدارية المتراكمة خلال تلك الفترة الطويلة التي امتدت حتى تولى الأمير محمد بن سعود الحكم سنة 1139هـ/1727م، والذي استطاع ترجمة هذه الخبرات والتجارب ليضع الأسس والمقومات ويؤسس الدولة السعودية الأولى.
وتعد الدولة السعودية الأولى التي تأسست عام 1139هـ/1727م هي أول كيان سياسي يعيد للجزيرة العربية وحدتها التي افتقدتها بعد خروج العاصمة الإسلامية عنها في نهاية النصف الأول من القرن الأول الهجري، وهي - أيضًا - العمق التاريخي للمملكة العربية السعودية، فالمملكة العربية السعودية هي ثمرة تلك الجهود التي بذلها أئمة الدولة السعودية الأولى خلال الفترة (1139-1233هـ/ 1727-1818م)، فالأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية تعود بجذورها إلى مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- وكذلك المجتمع الذي تتكون منه اليوم المملكة العربية السعودية هو امتداد للجيل الذي أسهم في بناء الدولة السعودية الأولى خلال تلك الفترة.
وأثبتت المصادر التاريخية أن الفترة التي حكم فيها الإمام محمد بن سعود خلال الأربعين سنة كلها عمل وبناء منذ اليوم الأول لتوليه الحكم، وكان توليه الحكم وهو في سن الثامنة والأربعين من عمره مما يعني أنه تولى الحكم ولديه رصيد من الخبرات التي اكتسبها بل وشارك في صنعها عندما تولى والده الأمير سعود بن محمد الحكم خلال الفترة (1132-1137هـ/1720-1725م).
كان الإمام محمد بن سعود في نهاية عقده الرابع قد انتهى من مراقبته للأحداث التاريخية ونظام الحكم في الدرعية طوال تلك الفترة، لذا استطاع في الفترة الأولى من حكمه الانتقال بالدرعية من مدينة الإمارة إلى مدينة تكون عاصمة للدولة السعودية التي شملت أرجاء الجزيرة العربية من البحر إلى البحر ومن أغوار الأردن وأطراف الشام شمالاً حتى أجزاء من اليمن جنوبًا.
لذا لا يمكننا أن نغفل هذه المرحلة التأسيسية المليئة بالجهود والإنجازات السياسية التي بذلها أئمة الدولة السعودية الأولى في سبيل وحدة هذا الكيان السياسي الذي يشكل إرثاً تاريخياً وحضارياً لنا اليوم، ولم يكن ذلك بالشيء الهين فقد استغرقت مرحلة التأسيس والبناء الداخلي وقتاً كبيراً يصل إلى العشرين سنة، ثم تبعتها مرحلة التوحيد التي أخذت قرابة السبع والستين عامًا من عمر الدولة، ويكفينا القول بأن توحيد منطقة نجد وحده احتاج إلى أكثر من أربعين سنة من الكفاح والنضال العسكري، لكن ثمرة ذلك الجهد لم تذهب سداً، وهو ما رأيناه في الفترات اللاحقة لثمرات هذه الدولة المباركة، حيث لم يمض عامان على دخول الإمام تركي بن عبدالله الرياض وإجلائه للحاميات التركية (العثمانية) من منطقة نجد إلا ودخلت جميع بلدان نجد في حكمه ودولته.
وهو أمر ينطبق على المسيرة التوحيدية للملك عبدالعزيز -رحمه الله، الذي اكتمل دخول نجد في حكمه خلال الثلاث السنوات الأولى منذ دخوله الرياض عام 1319هـ /1902م عدا حائل التي كانت تُمدها الدولة العثمانية بالسلاح والعتاد.
وهذه من ثمار جهود أئمة الدولة السعودية الأولى في تأسيسهم لهذا الكيان السياسي القوي، الذي استند عليه الملك عبدالعزيز في مسيرته السياسية، إذ كان -رحمه الله- دائماً ما يستحضر دولة أبائه وأجداده وتاريخها خلال مسيرته تلك، فكان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يعي هذا العمق التاريخي، وأن ما يقوم به اليوم هو ثمرة ما تم تأسيسه بالأمس، فكان -رحمه الله- كثيراً ما يستشهد بخطاباته قائلاً: إن هذه الأرض ملك آبائي وأجدادي، وإن هذه المنطقة كانت تتبع لحكم أجدادي، مما يدل على وعيه العميق للجذور التاريخية للدولة التي كان يؤسس لبنائها، وهذا سر من أسرار نجاحه، حيث كان -رحمه الله- يستحضر تاريخ وأحداث الدولة السعودية الأولى خلال مرحلة بنائه للمملكة العربية السعودية.
رحم الله مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود وأبنائه وأحفاده من بعده، ورحم الله مؤسس المملكة العربية السعودية وموحد أرجائها الإمام الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وأبنائه أصحاب الجلالة من بعده: (الملك سعود، الملك فيصل، الملك خالد، الملك فهد، الملك عبدالله) رحمهم الله جميعًا، وأمدّ في عمر خادم الحرمين الشريفين بالصحة والعافية الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله بعزه ونصره وتمكينه، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله ورعاه، ودمت يا وطني شامخًا في أمن وأمان.
** **
- د. نايف بن علي السنيد الشراري