«فنحن أسرة نبتت من تربة وأرض هذه البلاد،.. ولم نأت من فوق، فقد نبتنا من هذه الأرض، فمن محمد بن سعود إلى اليوم، ونحن عدنانيون من نسل هذه البلاد الطاهرة» -خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز-
التاريخ ليس الماضي والذاكرة فقط بل هو حياة، والتمرحل في سلسلة تلك الحياة ليس انقطاعًا بل تجديد وتكامل، والتكامل لا يُنسي عظمة البدايات وقيمتها وأثرها لأنها الترسيخ والأساس.
إن ذكرى التأسيس هو اعتراف بوحدة تاريخ هذه الدولة المباركة وعراقتها وبطولاتها وصراعها مع الظلم والباطل والخيانة والاستعمار ما قبل 300 سنة منذ تأسيس العهد الأول للدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- الذي عُرف بالعدل والصلاح والحكمة، والذي سعى إلى تحرير عقل سكان الجزيرة العربية من الضلالات التي أحاطت بالدين القويم؛ لأنه آمن بأن الفكر الإصلاحي هو الفكر المحرر من كل بدعة، وهي البداية الداعمة للانتقال من عصر التخلف إلى عصر التنوير والنهضة.
لم يكن الإمام محمد بن سعود مجرد أمير كغيره من أمراء شبه الجزيرة العربية، بل كان يملك رؤية إصلاحية تسعى إلى تحويل شبه الجزيرة العربية إلى دولة مدنية كالدول التي كانت سائدة في عصره، رؤية تسعى إلى تحويل سكان شبه الجزيرة العربية من قبائل متفرقة إلى وحدة وطنية عصرية، وسار على نهجه بعد ذلك من خلفه.
وهذا المنهج السياسي الحديث في شبه الجزيرة العربية الذي بدأت أصداؤه تتردد خارج شبه الجزيرة العربية أخافت الدولة العثمانية التي كانت تحرص على أن تبقى شبه الجزيرة العربية بؤرة تخلف ولتظل فعاليتها غائبة عن المشهد الإسلامي والعربي، فأي فرصة لتمدين هذه المنطقة وعصرنتها يعني سحب ضوء الريادة من قلب الدولة العثمانية، وهذا ما حدث في عهد التوحيد المبارك على يد مؤسس التوحيد خالد الذكر الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله؛ لذا حاربت الدولة العثمانية من خلال حملات محمد علي باشا العهد الأول من الدولة السعودية.
وقد ناضلت الدولة السعودية الأولى من أجل حماية شبه الجزيرة العربية من كل استعمار ووقفت في وجه أقوى دولة في الشرق الأوسط في ذلك العصر وهي الدولة العثمانية لتمنع حضورها وتحكمها في شبه الجزيرة العربية في وقت كانت كل الدول العربية خاضعة للدولة العثمانية سياستها واقتصادها وثقافتها.
إن المسؤولية نحو العروبة والإسلام والمحافظة على هويتهما كانت وما زالت هاجس هذه الدولة المباركة منذ عهد التأسيس الأول مرورًا بالدولة السعودية الثانية وحتى يومنا هذا.
وظنت الدولة العثمانية من خلال حملات محمد علي باشا بأن هزيمتها للدولة السعودية يعني اقتلاع جذور هذه الدولة، لكن خسارة المعركة لم تكن أبدًا خسارة للحرب.
ولأن جذور التأسيس قوية غير قابلة للقلع والامتداد راسخ كبنيان مرصوص ما لبثت الدولة السعودية بعد نفض آثار الألم الذي أصابها على يد الحملات العثمانية أن استعادت عافية مجدها وحكمها في نجد.
ولاشك أن العودة القوية للدولة السعودية مرة ثانية له العديد من المؤشرات منها:
شعبية الدولة السعودية بين القبائل العربية التي ظلّت تدعم الدولة السعودية، وهذه الشعبية بالتأكيد هي مؤشر على ثقة الناس في هذه الدولة حكمًا وفكرًا وسلوكًا.
ولعل هذه الشعبية والثقة والمحبة التي أحاطت بالدولة السعودية الثانية زرعت في نفوس بعض القبائل الغيرة والحقد نحو آل سعود حتى جعلتها تتآمر عليها وتتحالف مع الخارج ضدها، وهو أمر أسهم في تراجع حكم الدولة السعودية الثانية.
والجدير بالذكر أن زمن حكم الدولة السعودية الأولى والثانية وأثناء غيابهما قامت العديد من الإمارات الحاكمة في شبه الجزيرة العربية لكنها لم تحظ بالشعبية الجماهيرية والمحبة والولاء التي حظيت بها الدولة السعودية في عهدها الأول والثاني، هذه الشعبية التي ظلت تحمل الولاء والانتماء للدولة السعودية في الشدة قبل الرخاء.
ثم جاء بطل التوحيد الملك عبدالعزيز لتكون بقيادته وشجاعته وفروسيته وفكره وبطولاته الدولة السعودية الثالثة، وهي امتداد للجذر الأول في الأصل والمبدأ والكلمة، وإن اختلف الزمان والشكل والمقتضيات، لكن قيمة الأصل ثابتة ومستمرة وخالدة، لهذا فقد تسابق سكان شبه الجزيرة العربية للانضمام إليه ومناصرته ليُصبح شاهدَ عيان على الولاء لجذور التأسيس، وأن جذور التأسيس راسخة كجبل طويق لا يمكن لأي معتدٍ مهما بلغت عظمة قوته من قلعها، وأن الامتداد مستمر وثابت كبنيان مرصوص، وأن الولاء لا يتغير مع الغياب.
إن ذكرى التأسيس ليست حكايات خيالية بل هي بطولات حقيقية حان الوقت لتخرج من صفحات الكتب إلى الواقع وتطبيقاته وبرامجه من خلال إعادة تدوير تلك البطولات واستثمار دلالاتها وقيمها؛ لتتعرّف الأجيال على عظمة ومجد تاريخ البدايات وتكتشف كنوزها وتعتز بعراقة الأصول.