لم تكن القصيدة الدينية الوحيدة، التي غنَّتها أم كلثوم، ولم يكن اللحن الوحيد، الذي لحَّنه رياض السنباطي لقصائد دينية، أو الأغنية الوحيدة التي جمعت بين موسيقاه وصوت أم كلثوم، ولكنها درَّة الأغاني الدينية لأم كلثوم، وأكثر ألحان السنباطي تعبيراً ووصولاً.
والحقيقة إن أم كلثوم، التي بدأت حياتها الغنائية منشدة دينية، كان للغناء الديني نصيبٌ غير قليل في أغانيها فيما بعد، وخاصة القصائد منه، ومن ذلك: قصيدتا «نهج البردة»، و»سلوا قلبي»، عام 1946 وقصيدة «إلى عرفات الله»، عام 1951، وجميعها من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي ومن ألحان رياض السنباطي. وقصيدة «التوبة»: عام 1962 من كلمات عبدالفتاح مصطفى وألحان رياض السنباطي، ثم القصائد ذات الطابع الصوفي في فيلم «رابعة العدوية»، ومنها: «لغيرك ما مددت يدا» و»الرضا والنور»، عام 1963 للشاعر طاهر أبو فاشا، وكانت الأولى من ألحان كمال الطويل، والثانية من ألحان رياض السنباطي ثم قصيدة «حديث الروح»، من كلمات الشاعر محمد إقبال الباكستاني، والتي ترجمها من الأوردية إلى العربية الشيخ الصاوي شعلان من علماء الأزهر الشريف، وغنَّتها أم كلثوم عام 1967، من تلحين رياض السنباطي، ثم قصيدة «الثلاثية المقدسة»، من كلمات صالح جودت وألحان رياض السنباطي عام 1972.
ولعلنا نلاحظ أن القاسم المشترك في كل هذه الأغنيات هو اللغة الفصحى، وصوت أم كلثوم، وموسيقى رياض السنباطي، ولعل نشأة كل منهما الريفية والدينية، وتوافقهما في تذوق الشعر العربي، هو الذي أخرج هذا المزيج الرائع من الأغنيات الدينية في التراث الغنائي لكليهما. وجاءت أغنية «القلب يعشق كل جميل لتتوج هذا العطاء المتميز، حسَّاً وتعبيراً، عاطفةً وصوفية، وإن كانت بالعامية المصرية. ويكاد يجمع من يسمعها على صوفية روحها، وعلى رقة كلماتها، وعذوبة لحنها، وحسن إنشاد أم كلثوم لها، بل ويتأثر بها ويكاد تدمع عيناه من فرط التأثر بها، هذا التأثر امتد لمن لحنها، ومن غناها، فقد قال السنباطى لزوجته متأثراً بالحالة الروحية للأغنية، وبكلماتها وتجاوبه معها: «إنني أشعر أنني سأحج بهذه الأغنية»، وشاء القدر وكانت العمرة من نصيب السنباطي، كما بكت أم كلثوم متأثرة وهي تغنيها لأول مرة على المسرح في 3 فبراير عام 1972م.
كانت أغنية، أو قصيدة، «القلب يعشق كل جميل»، هي القصيدة الدينية الوحيدة من أشعار الشاعر بيرم التونسي (1898-1961)، صاحب الأغنيات العاطفية، مثل: الأوله في الغرام، أنا في انتظارك، أهل الهوى، هو صحيح الهوا غلاب، الحب كده، حبيبي يسعد أوقاته... وغيرها. فكانت هذه الأغنية الدينية الوحيدة التي غنتها أم كلثوم بالعامية، وهي الأغنية الدينية الوحيدة لبيرم التونسي، وهو شاعر مصري، ذو أصول تونسية، ويعدُّ من أشهر شعراء العامية المصرية، ويعتبره النقاد رائداً لشعر العامية في مصر إذ سار على نهجه من تبعه من شعرائها وهو أحد اثنين من شعراء العامية، كان يخشى أمير الشعراء أحمد شوقي على شعر الفصحى من شعرهما، وكان الثاني هو الشاعر أحمد رامي.
كتب بيرم هذه الأغنية، أو القصيدة، بعد رحلة حج إلى مكة، وتأثره بروحانيات المكان، وقيل إنه كتبها في الروضة الشريفة، وأعطى بيرم الأغنية إلى صديقه وتوأم روحه، الملحن زكريا أحمد؛ لكي يلحنها عام 1961، وعرضها زكريا بدوره على أم كلثوم فاعترضت على بعض الجمل اللحنية. وحدث أن توفي بيرم التونسي، وزكريا أحمد، في 5 يناير، و14 فبراير على التوالي من العام نفسه. بينما ظلت الأغنية حبيسة الأدراج عشر سنوات تقريباً، حتى عام 1971 تحديداً عندما بدأ رياض السنباطي بروفات تلحينها.
وتذكر بعض الروايات أن أحد السفراء السعوديين من أصدقاء أم كلثوم سألها ذات يوم: لماذا لا تقدمي أغنية عن الحج يتغنى بها الحجاج والمسلمون في كل مكان؟ فاقتنعت أم كلثوم بالفكرة، وعرضتها على السنباطي, وكانت المشكلة التي صادفته هي من هو المؤلف الذي يكتب الأغنية، وقبل مرور أسبوع وجدت أم كلثوم الأغنية، وكانت قد عرضت عليها من قبل، وتذكرتها أخيراً، وينبهر السنباطي بالأغنية ويعود إلى بيته ويعتكف فيه لمدة شهرين تقريباً يكون خلالها قد انتهي من تلحين الأغنية.
نجح السنباطي بعبقريته الموسيقية، في أن يجمع في لحنه بين الإحساس بالجلال والعظمة والشجن من جهة، والبهجة والمحبة والفرح من جهة أخرى، فكان لحناً خفيفاً ذا إيقاع مرح سريع يختلف عن ألحانه المعتادة للأغنيات الدينية التي لحنها لأم كلثوم من قبل، أو لغيرها من المطربين والمطربات، أو حتى لنفسه، وهو الأسلوب الرصين الذي كان أشبه ما يكون بالابتهالات الدينية ذات الإيقاع الثقيل.
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية انسيابية رقيقة، سريعة الإيقاع مع توظيف متقن وبارع لآلة القانون في حوار متناوب مع الإيقاعات وجوقة الكمان؛ مقدمة (مذهب) تلامس العاطفة وتغازل أوتار القلب، والجزء الأخير منها هو نفسه الفاصل الموسيقي بين الكوبيليهات، ويستمر اللحن منساباً مترقرقاً مع مقاطع الأغنية ومحتفظاً بجريانه وخريره في الفواصل والانتقالات اللحنية، هذا في تجاوب وتحاور مع صوت أم كلثوم القوي الشجي اللامع، كأنما سيميترية من الطرب الذي يمتزج فيه الصوت بالموسيقى، يتجاوب معهما هتاف الجمهور وتصفيقه في نهاية كل مقطع وكأنه صار جزءاً من اللوحة الفنية وتداخل فيها.
أما قفلة الأغنية فلحنها لا يعتمد كثيراً على التكرار المعتاد العمل به في الأغاني العربية، بل يعتمد على غناء القفلة بشكل متصل إلى أن تصل أم كلثوم إلى ذروة الأداء الذي يحصل على إعجاب الجمهور، فتكون القفلة الأخيرة هي القفلة المتكررة لكل مقطع وهي: واحد مفيش غيره.. ملا الوجود نوره / دعاني لبّيته...لحد باب بيته/ وأمّا تجلاّلي... بالدمع ناجيته.
القصيدة تتحدث عن وقوف المسلم المؤمن بخشوع أمام خالقه، متجرداً من سلطته ومنصبه، وماله وجاهه، ومن عوالق الدنيا جميعها، حتى من ثيابه الخاصة إلى ثياب الإحرام، وهو يلبي ربه، ويطوف في خشوع وتبتل، وقد تجلى له ربه من عليائه بكل عظمته وجلاله. وبعد أن كان يحاول التهرب منه والبعد عن طريقه، ها هو قد شمله الله برحمته، فيذعن له، ويعترف بتقصيره، وبفضل الله عليه، وحينها يقف يناجيه بدموعه المنسكبة التي تعبر عن الحب الخالص والخالد لخالقه.
تنقسم القصيدة، إلى مجموعة من الدفقات الشعورية المتصلة موضوعاً، والمنفصلة معنى، الأول منها يبدأ باستهلال وإقرار يأسر القلب والأذن، ويرفع له العقل الراية مستسلماً، كما يرفع له القبعة مستحسناً، «القلب يعشق كل جميل». هكذا خلق الله القلب يميل إلى ما هو جميل، ويعشقه، ويتيم به، وقد يشاهد الإنسان الكثير من مواطن الجمال، ومشاهد الحسن، ويعتقد أنه يحبها، والصدق في الحب بين البشر قليل، كما أن عمر الحب بينهم قصير وأيامه معدودة، غير أن حب الله هو الحب الحقيقي والصادق، وهو الحب الدائم والخالد، الذي لا يقطعه لومٌ، ولا ينال منه عتاب. الحب الخالص لله وحده، وليس لأحد غيره، ولا لأحد معه، الله الذي ملأ نوره جنبات الكون، فالله نور السماوات والأرض، وما وجود الشاعر في هذه البقاع الطاهرة إلّا دعوة من ربه الذي أحبه، فكان أن لبَّى نداءه، وحج بيته، حتى إذا تجلى الله له بوجهه الكريم أخذ الشاعر يناجيه وقد فاضت عيونه بالدموع، يقول بيرم في مفتتح قصيدته الرائعة في بساطتها، ومعناها:
القلب يعشق كل جميل... وياما شفتِ جمال يا عين/ واللي صدق في الحب قليل... وإن دام.. يدوم.. يوم ولا يومين/ واللي هويته اليوم... دايم وصاله دوم/ لا يعاتب اللي يتوب... ولا في طبعه اللوم/ واحد مافيش غيره... ملا الوجود نوره/
دعاني لبّيته... لحد باب بيته/ وامَّا تجلى لي... بالدمع ناجيته.
ويستخدم رياض السنباطي النهاية الموسيقية للمقدمة المستهلّة للقصيدة، لتكون هي «القفلة» أو الفاصلة للمقطع السابق والواصلة للمقطع التالي، والذي ينتقل الشاعر فيه إلى وصف لحالته مع ربه قبل هذا اللقاء الروحي الصافي، فيقول إنه كان يبتعد عن طريق ربه، وكان ربُّه يناديه في اليوم خمس مرات وأكثر، ويذكره دائماً أن المصير إليه، وأن المنتهى عنده والرُّجعى إليه، وأنه هو الحبيب الوحيد، الذي يفرح بتوبة عبده، وإنابته إليه، كيف لا وهو الذي أعطاه دون سؤال، وعلَّمه ما كان يجهل، وأنعم عليه بنعم لو أحصاها لعجز عن إحصائها، وأن سلام الإنسان الروحي والنفسي يكمن في الإسلام إلى ربه والخضوع له. يقول بيرم:
كنت ابتعد عنه... وكان يناديني/ ويقول مصيرك يوم... تخضع لي وتجيني/ طاوعني يا عبدي... طاوعني انا وحدي/ ما لك حبيب غيري.. قبلي ولا بعدي/ أنا اللي أعطيتك... من غير ما تتكلم/ وأنا اللي علمتك... من غير ما تتعلم/ واللي هديته إليك... لو تحسبه بإيديك/ تشوف جمايلي عليك... من كل شيء أعظم/ سلِّم لنا.. سلِّم لنا.. سلِّم لنا.. تسلم.
وتأتي الموسيقى المصاحبة لهذا المقطع لتعبر تعبيراً يكاد يكون ناسخاً ومصوِّراً موسيقياً لكل معنى تشتمل عليه الأبيات من معاني الرغبة والرهبة والنداء والأمر. ثم تعود الأغنية إلى «القفلة» أو النهاية الموسيقية للمقدمة المستهلّة للقصيدة ليختم بها هذا المقطع.
وفي المقطع التالي للأغنية يلتفت الشاعر إلى المكان المقدس الذي يوجد فيه، تلك البقعة الطاهرة من الأرض، حيث جبال النور المطلة على بيت الله الحرام، «مكة وفيها جبال النور... طلّة على البيت المعمور». وها هو يدخل الحرم من باب السلام مع رفقائه من الحجيج فيغمر قلوبهم السلام، وتتجاوب الموسيقى تعبيرياً مع الكلام فتستشعر رهبة الدخول، وتستشعر الهدوء النفسي، والسلام الداخلي، وموسيقى تهيئة الدخول لباب السلام في ظل عفو رب غفور يبعث الطمأنينة في النفس تعكسه الموسيقى الهادئة الهامسة: «دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام/ بعفو رب غفور ... بعفو رب غفور».
حتى إذا تأكد الشعور بالعفو جاء التعبير عن الفرحة ليواكبه موسيقى معبرة عن الابتهاج والسعادة فتتجاوب الموسيقى مع فرحة الشاعر كما تجاوبت معه آلاف الطيور التي تهنئه وتهنئ ضيوف الرحمن المصاحبين له بالعفو والمرحمة «فوقنا حمام الحما.. عدد نجوم السما/ طاير علينا يطوف.. ألوف تتابع ألوف / طاير يهني الضيوف.. بالعفو والمرحمة / واللي نظم سيره.. واحد ما فيش غيره».
ثم تعود الأغنية لتنهي هذا المقطع بالمتلازمة السنباطية التي أشرنا إليها من قبل (دعاني لبّيته... لحد باب بيته/ وامَّا تجلى لي... بالدمع ناجيته) ونفس النهاية الموسيقية للمذهب أو المقدمة المستهلة للقصيدة، لتكون هي الفاصل الواصل للكوبيليهات في الأغنية، ومنها هذا المقطع أو الكوبيليه الأخير، الذي يتضمن مشهداً تصويرياً حركياً جمع فيه الشاعر بين الصورة والحركة والحالة والنفسية، فيتخيل فيه الشاعر نفسه (وإن لم يقل ذلك) في روضة من الجنة، تنال فيها الأحبة كل ما يشتهون ويتمنون، فيها من الطرب والسرور الكثير، وفيها النور الغامر الوفير، وفيها كأسٌ من المحبة تدور بينهم من يشرب منها يطرب ويغني، وها هي ملائكة الرحمن تسامرهم وتشاركهم فرحتهم، وتبشرهم بالصفح والغفران، وهو يتمنى أن يكون مصير كل أحبابه مثل مصيره من السعادة والفرحة هذه. وتصاحب هذه الصورة الشعرية الموسيقى التعبيرية حيث تتاقفز الدفقات الموسيقية ويرقص الإيقاع الموسيقي فرحاً مع هذه الحالة من البهجة والحبور، ويشارك الشاعر وأحبابه هذا النور الذي يشملهم ويحيط بهم، وكأس المحبة التي تدور بينهم، وملائكة الرحمن الذين يبشرونهم بالصفح والغفران. يقول بيرم:
جينا على روضة... هلّا من الجنة/ فيها الأحبة تنول... كل اللي تتمنى/ فيها طرب وسرور... وفيها نور على نور/ وكاس محبة يدور... واللي شرب غنى/ وملايكة الرحمن ... كانت لنا ندمان/ بالصفح والغفران... جاية تبشرنا/ يا ريت حبايبنا... ينولوا ما نلنا/ يا رب توعدهم... يا رب واقبلنا.
وتختم الأغنية بنفس القفلة المتبعة «دعاني لبّيته... لحد باب بيته/ وامَّا تجلى لي... بالدمع ناجيته» دون الفصلة الموسيقية لتكون حسن الخاتمة لهذه الأغنية الرائعة.
ولن نتكلم عن صوت أم كلثوم، الذي صار أكثر نقاء، وأكثر رقة، وأكثر لمعاناً، وأكثر حرفية، مع مرور العمر وتراكم الخبرات. ولا الإحساس بالكلمات والمعنى الذي تحمله، والدلالات التعبيرية له، فنقلت لنا هذا كله في أداء أضاف لا شك إلى جمال الصوت وعذوبته. كان الإحساس عالياً يأتي من القلب، فيصل إلى قلوب المستمعين مباشرة دون أن يطرق باباً ودون حاجب أو حجَّاب. وكان هذا العمل الفني الفريد في عالم الغناء العربي لقصيدة دينية عامية نافست قصائد الفصحى المغنَّاة ووصلت إلى قاعدة عريضة ممن يتحدثون العربية ويتذوقون الطرب الأصيل والفن الجميل.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم