ارتبط وادي حنيفة بعدد من الأحداث المهمة البارزة التي بيَّنت أهمية هذا الوادي في تاريخنا المعاصر، فعندما قدم عبيد بن ثعلبة أحد زعماء بنو حنيفة من عالية نجد متنقلاً بين المواقع باحثاً عن موطن استقرار له وعشيرته، وجد ضالته على ضفاف الوادي حينما اختار حجْراً لتكون قاعدة ومستقراً له وأسرته.
أصبحت حجر مدينة كبيرة وتأسست عدد من المدن الأخرى قربها ومنها غبراء التي تقع شمال حجر وقريبة من موقع الدرعية الحالي. أصبح الوادي ضمن مملكة كبيرة هي مملكة اليمامة التي حكمها أحد أحفاد عبيد وهو ثمامة بن أثال الذي كانت له مواقف مشرفة في نصرة دعوة الرسول، وخلال حروب الردة زمن الخليفة أبي بكر كانت مملكة اليمامة في ذلك الوقت إقليما غنياً بالثروات الزراعية الأساسية، إذ كانت تصدِّر ما يفيض منها إلى المناطق الأخرى.
كان بنو حنيفة سادة اليمامة، واستمروا على ذلك حتى أتت دولة بنو الأخيضر التي عاثت في الأرض فساداً؛ ما جعل الكثير من أهالي اليمامة ينتقلون إلى مناطق أخرى، ويبحثون عن مستقر آمن أملا في العودة إلى بلادهم مرة أخرى. ولكن سقوط الأخيضريين مهد لعودة السيادة والحكم لبني حنيفة، وهذا ما أثبتته الأخبار والأحداث، ومنها زيارة ابن بطوطة لليمامة ولقائه زعيمها ووصفه لها.
كان الحدث الأكبر في منتصف القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي هو تأسيس مدينة الدرعية. وكما قال المثل العربي: « من شابه أباه فما ظلم»، فكما انتقل عبيد بن ثعلبة من غرب الجزيرة العربية ليستقر على ضفاف وادي حنيفة، أتى أحد أحفاده من شرق الجزيرة العربية بعد أكثر من 1000 عام ليستقر في ذات الموضع ويؤسس مدينة ستصبح من أعظم مدن الجزيرة العربية.
كان مانع المريدي وعشيرته مستقرين في شرق الجزيرة العربية في إمارة مستقلة، ولكن قلبه وفكره كانا ينظران إلى بلاد آبائه وأجداده في اليمامة، وكان ينتظر الفرصة للعودة إليها بسبب شخصيته المستقلة وانتمائه للأرض، فما أن راسله ابن عمه، ابن درع حاكم حجر والجزعة للقدوم والانتقال حتى أعد العدة وقرر العودة.
وهنا نقطة مهمة يجب أن نتوقف عندها مليا ونمعن التفكير بها وهي أن قرار الانتقال ليس بالأمر السهل، فمانع سينتقل من بلدته القائمة إلى أرض جديدة سيستقر بها وسيعمرها من أساسها، ومثل هذا القرار قرار صعب ويحتاج إلى جرأة واتخاذ قرار، ولكن مانع كان صاحب رأي وقرار، فعزم على الرحيل وقدم إلى اليمامة، واستقر في موضعي غصيبة والمليبيد اللذين تكونت منهما مدينة الدرعية وبناها من الأساس لبنة فوق لبنة واضعاً الأساس لقيام مدينة الدرعية. لقد كان مانع المريدي ذا شخصية مستقلة، ترفض النفوذ ولا تقبل إلا السيادة والقيادة، وقد أورث ذريته من بعده هذه الرؤية وهذا الاعتزاز.
عندما أتى مانع المريدي إلى المنطقة أراد أن تكون بدايته متميزة من حيث التطبيق بشكل لم يكن معروفاً بها، فطبق فكرة دولة المدينة بحيث أسس الدرعية في موضعين الأول غصيبة حيث اختار له موقعاً استراتيجيا منيعا بإطلالة بديعة على وادي حنيفة، والثاني هو المليبيد حيث قرر أن يكون هذا الموقع سلة غذاء الدرعية.
استمر مانع وأبناؤه من بعده على ذلك النظام السياسي، حيث كانت دولتهم مكتفية ذاتيا من نواح متعددة، ومرهوبة الجانب من القوى المختلفة والبلدات الأخرى، واستمرت على ذلك حوالي ثلاثة قرون، كانت قوافل الحج والتجارة تمر من البلدة بأمن وأمن وطمأنينة.
عملت دولة المدينة في الدرعية على الحفاظ على المكتسبات التي بدأها مانع المريدي، واستطاعت تحقيق نجاحات متنوعة، وإثبات وجودها ونفوذها ودورها في المنطقة. كل هذه المكتسبات والتجربة التي خاضتها دولة المدينة في الدرعية والتي امتدت زهاء ثلاثة قرون، بلغت بها للوصول إلى مرحلة التحول من دولة المدينة إلى دولة ذات فكر مرتبط بالوحدة، وقائمة على الأمن والاستقرار، وهذا ما تحقق على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود.
ولد الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن في الدرعية عام 1090هـ / 1679م في بيت عز وإمارة، حيث كان جده الأمير محمد بن مقرن أميرا للدرعية وكذلك والده الأمير سعود بن محمد الذي تنتسب إليه الأسرة السعودية المالكة.
تعلَّم محمد بن سعود فنون الحكم والسياسة في مدرسة جده ووالده، واستفاد منها في تقييم الأوضاع خلال تلك الفترة. كانت رؤية الإمام محمد بن سعود رؤية وحدوية فقد ساهم في حفظ التوازن في الدرعية وساند والده وابن عمه زيد بن مرخان، وشارك في عدد من الأحداث العسكرية كدفاعه عن الدرعية ضد إحدى الهجمات المعادية، ومشاركته في الحملة على العيينة التي عاد منها ليكون إماما للدولة السعودية الأولى.
رأى الإمام محمد أن تجربة دولة المدينة في الدرعية بلغت مرحلة متقدمة من النضج وأنه ينبغي الانتقال بها إلى مرحلة جديدة تندمج بها تجربة دولة المدينة بمفهوم أوسع وأكبر يضم معظم أرجاء الجزيرة العربية. سعى الإمام محمد بن سعود خلف حلم الوحدة حتى استطاع تحقيقه. فمنذ أن تولى الإمام محمد بن سعود مقاليد الحكم في الدرعية عام 1139هـ / 1727م حتى أعلن تأسيس الدولة السعودية الأولى، وبدأ مشروعه الكبير بتنظيم الأوضاع في الدرعية العاصمة حيث وحد جهاتها.
ومن الواضح أن الإمام محمد بن سعود، بالإضافة إلى كونه قائدا سياسيا فذًا، فقد كان حاكما حكيما نجح بشكل كبير في حسن إدارة الدولة منذ تأسيسها حتى أصبح مثالا يحتذى في طريقته وأسلوبه في الحكم.
كان تأسيس الدولة السعودية الأولى بمثابة حجر الأساس لنهضة سعودية شاملة في جوانب متعددة شملت الجانب السياسي والثقافي والعلمي والاقتصادي والاجتماعي. فحينما نأتي لأول عمل قام به الإمام محمد بن سعود بعد توليه الحكم لوجدنا أنه وحد شطري الدرعية وهذا إثبات واضح وتطبيق عملي لرؤيته الثاقبة وتركيزه بشكل رئيس على الوحدة. كان طريق الحج والتجارة طريق محوري ومهم ويربط بين أرجاء الجزيرة العربية وكان وادي حنيفة أحد المواضع التي يمر بها هذا الطريق، فرأى الإمام محمد أهمية تأمين الطريق وحمايته والتأكد من سلامة القوافل التجارية المارة به ذلك أن قوة الاقتصاد من أهم عوامل الوحدة والبناء. ومن أجل ذلك عقد الإمام محمد اتفاقيات عدة مع القبائل القريبة من الدرعية لتأمين الطريق والحفاظ عليه.
ومن دلائل الازدهار الحضاري للدولة، أن الحي الرئيس في عهد الدرعية في عهد الإمام محمد بن سعود ازدحم بساكنيه وهذا ما جعل الإمام محمد يرى ضرورة التوسع الحضري العمراني ببناء حي جديد في هضبة سمحان المقابلة لغصيبة من الجهة الجنوبية وسماه الطرفية. هذا يبين الرؤية الخاصة للإمام محمد بن سعود ورغبته في إثبات أن مقومات الدولة قائمة ومستمرة، وفي امتداد وازدياد. عمل الإمام محمد بن سعود على الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، تمثل ذلك في إعادة الاستقرار إلى الرياض التي استنجد حاكمها به فأرسل حملة أعادت الأمور إلى نصابها.
يذكرنا الإمام محمد بن سعود بأحد أجداده وهو ثمامة بن أثال الذي نصر دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ناصر الإمام محمد بن سعود الدعوة الإصلاحية وعمل على حمايتها ودعم طلبة العلم وجعل الدرعية منارة علمية وثقافية في المنطقة.
شكَّل تأسيس الدولة السعودية الأولى نقطة تحول كبرى في تاريخ الجزيرة العربية التي لم تعرف الوحدة لأكثر من 1000 عام، ولذا كان محمد بن سعود شخصية استثنائية، وقد مهد بتأسيسه للدولة السعودية قيام أعظم دولة عرفتها الجزيرة العربية منذ عصر دولة النبوة والخلافة الراشدة.
كانت انطلاقة التأسيس عام 1139هـ / 1727م بمثابة اللبنة الأولى لهذا الكيان العظيم الذي مر بثلاثة أدوار وما زال باقيا ومستمرا لأنه قام على أساس متين ومبادئ عظيمة راسخة ورؤية واضحة. إن التجربة السعودية تجربة خالدة قلَّ أن تجد لها مثيلا في التاريخ.
سيبقى الإمام المؤسس ودوره الكبير في تأسيس الدولة حاضرا في قلب كل سعودي، وسيبقى يوم التأسيس يوما تاريخيا لنا وذكرى تبين عمق تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا.
** **
د. محمد بن علي العبداللطيف - قسم التاريخ / جامعة الملك سعود