د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
نعلم أن موسم الرياض لم يصنع لمحاكاة الماضي؛ بل ليحمل نظرة للمستقبل ومحاكاة للقادم في كثير من طقوسه، ولقد قدّم الموسم آنية اللحظة، وآنية الفكرة، وآنية الثقافة، وآنية الفنون المختلفة، وتلك مفاهيم اتسم طرحها بالتعددية في مضامينها وتشكيلاتها، ولقد كان المحمول التراثي الذي أشرقتْ شموسه في موسم الرياض هذا العام 2021 رافدا مهما من الروافد المعرفية والفنية التي ينشدها الناس، واستُنِد عليها رغبة في خلق بنية جديدة تتسم بالتمايز والتراكمية؛ كما أنه تحقيق للاستجابة لنوازع الذات النفسية والجمالية؛ وفي ثنايا ذلك كله تعبير عن قضايا الواقع المعاصر، فاتجه المخططون لموسم الرياض في بعض احتفاءاته يفتشون عن الشخصيات التراثية، وبيئاتها التي تحمل في طياتها قضايا مماثلة تضفي على استدعاء تلك الشخصيات من الماضي بعدا دلاليا أكثر عمقا وحركية! ولقد حفز الموروث الشعبي على الحضور والانتخاب والفرز لاختيار المناسب من تجارب العهود الماضية في بلادنا باختلاف البيئات ومتعلقاتها من الفنون القولية والآداب فكان هناك في [عبق الماضي] [وقرية زمان] تفاعل حرٌّ خلّاق بين الوارث والموروث،فانشق موسم الرياض هذا العام عن لحظات تراثية تأخذ مرتادي الموسم إلى عالمها فيحدث الامتزاج، وإذا ما دخلنا إلى مضمار النقد وليس مضمار العرض لذلك التراث الذي كان مكتنزا في الموسم بلاشك؛ فإننا وقد احتفينا باللوحات التراثية وشخصياتها وأسعدنا الحفز والجهد الذي أحاط بمنصات العرض نرى أن التعامل مع التراث وبناء العلاقة يكون بعودة متبصرة متيقظة بحيث يلتقي في نفوس زائريه مع حضارتنا المعاصرة ويندمجا معا، فيحدث باندماجهما مزاوجة ذوقية وفنية تخرج من ثوبها فكرة تعصير التراث ليشهد وهج الحضارة المعاصرة، ويصبح كيانا بنائيا مقصودا له أبعاده الفكرية والإنسانية بمعنى أن تحمل الشخصيات التراثية عند توظيفها وسيلة وإيحاء للتعبير عن الرؤية المجتمعية المعاصرة، وحيث تبلور التراث المنفذ في موسم الرياض سواء كان من المنظور الشعبي والفلكلور ومحاكاة البيئات المادية القديمة وفنونها وأساليب حياتها؛ أو كان استدعاء شخصيات تراثية في مساكنها ومساقط الغيث في بيئاتها وأطلالها حينذاك؛ مثل المهرجان اللافت لمحاكاة زمن الشاعر الأعشى (صناجة العرب) في حي منفوحة بالرياض ذلك الاستدعاء الذي تلذذ به الزائرون وتقمصه المتخصصون فسامروا الأعشى وتربعوا في خيمته فأغمدتْ الجن معازفها تويرا للزوار!
ولقد كانت علاقة زوار موسم الرياض بالموروث وشخصياته علاقة تسجيل؛ وليست توظيف فيما بدا لنا حيث كان هناك حضور للتراث لالتقاط صوره ورصدها، وكم كنا نتمنى توظيف التراث وتحريك شخوصه نحو التعبير عن قضايا الإنسان المعاصر، بمعنى تحويل الشخصيات التراثية من حالتها الساكنة كدمى إلى شخوص متحركة تختار ما يناسبها من معطيات التراث وتحمّلها قضاياه وهمومه المعاصرة؛ فتكتسب الشخصيات التراثية حياة جديدة.. فلعل القائمون على التخطيط للمواسم المقبلة يدركون أهمية الإيحاء والتأثير الذي تحققه المعطيات التراثية عند وصلها بالمعاصرة حيث يكتسب التراث لونا خاصا من القداسة في نفوس الناس لما للتراث من حضور حي ودائم وممتد وبذلك تتحقق كثير من الرغبات التي تحول الزائر والمشاهد إلى حضور مختلف وباختصار مفاهيمي: فإن التراث مفعم بطاقات حية سجلتْ عطاءات الأمة على امتداد تاريخها، وسطّر تاريخ بلادنا كواشف ضوء حملها تراثنا فوق هوادج الفخر؛ كما وتملك الشخصيات التراثية إمكانات مضيئة صالحة لكل الأزمنة والفضاءات تُعززها بقوة عوامل بقاء يتصدرها شغف الناس بالتراث واستعادته واستدعاء شخوصه!
وتتوالى مآثر مواسم بلادنا في استخلاص الأمجاد واستدعاء رموزها فنأمل أن يجد الزائرون في التراث وشخصياته مساحة للتعبير عن قضاياهم المعاصرة تأسيسا على المحتوى الرصين الذي يحمله التراث والتعدد الدلالي العميق!