مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
الأسرة اللبنة الأولى، والركيزة الأساس كأحد الأنظمة الاجتماعية المهمة التي يعتمد عليها المجتمع في احتضان ورعاية أفراده منذ نشأتهم الأولى لأنها أساس الاستقرار في الحياة الاجتماعية ودوام الوجود الاجتماعي.
وتؤكد الدراسات العلمية أن قوة المجتمعات من قوة الأسرة وتماسكها وترابطها، وحينما يضعف دور الأسرة تظهر المشكلات في الأفراد والمجتمع.
فكيف يمكن المحافظة على الأسرة، وإعادة هيبتها ومكانتها المجتمعية في ظل المتغيرات الحديثة المتسارعة التي دخلت كشريك رئيسي في التعليم والتربية والتوجيه؟، وللإجابة على هذا التساؤل التقت «الجزيرة» مع مجموعة من المتخصصين والمتخصصات بالشأن الاجتماعي والأسري، فماذا قالوا؟
لحمة وعاطفة
تؤكد الدكتورة هيفاء بنت عثمان فدا رئيس جمعية يسر للتنمية الأسرية بمكة المكرمة أن الأسرة الأساس والرأس للبناء المجتمعيّ لحمة وعاطفة وفعلًا، بيد أنّ المحافظة على هذا الأساس هي أسُّ نمائه وبقائه؛ وذلك بحسن بنائه وتعليمه، ومن ثمّ تطويره، ويبدأ من بناء العلاقة الثّنائيّة بحلال الزواج وتوافق الطّرفين توافقًا يديم هذه العلاقة العظيمة التي تنشطر وتتكاثر كخلية تامة قادرة على التكاثر ومدعاة للتفاخر. ثمّ يلي ذلك المساهمة الأسريّة في تعضيد أسر المجتمع ومشاركتها البناء والنماء؛ لتكون مجتمعًا سليمًا جسدًا صحيحًا عقلًا يؤدّي واجباته وينال حقوقه، متكافلًا عطاء ومتماثلًا بناء، مجتمعًا يراقب فعوله ويحاسب خموله، مجتمعًا عميق الغور أنيق الطّور، يكتب حاضره بيد ويرسم مستقبله بيده الأخرى.
خارطة طريق
ويتفق الأستاذ محمد بن علي آل رضي - مدير عام جمعية المودة للتنمية الأسرية بمنطقة مكة المكرمة- على أن الأسرة اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات والأمم، وإذا صلحت صلح المجتمع كله، ومن هنا كانت الأسرة هي محور اهتمام الحكومات ومراكز البحث ومؤسسات المجتمع، وخاصة مع التغيرات الأسرية والمجتمعية المتسارعة سواء في التقدم العلمي والتقني أو التغيرات التي طرأت على العمل والحياة الاجتماعية والاقتصادية والضغوط الحياتية، والعادات المستحدثة لدى الشباب خاصة وأن 70 % من أبناء الوطن هم شباب ويتأثرون بما يحدث من حولهم من سلوكيات تسعى الكثير من المؤسسات والمنظمات العالمية لجعلها قانونية ومنتشرة في أوساط الأسر والمجتمعات، ولذلك على الجميع دعم ومساندة الأسرة بمبادرات وسياسات تساعدها في المحافظة على كيانها والقيام بدورها انطلاقا من ديننا الإسلامي، وعاداتنا المجتمعية الصحيحة بعيداً عن التطرف والغلو.
ويشير محمد آل راضي إلى أنه للمحافظة على الأسرة ينبغي البدء بعمل: خارطة طريق لبناء استراتيجية مستقبلية للأسر السعودية، ووضع الرؤية والرسالة والأهداف لهذه الاستراتيجية، وتحديد الاحتياجات الفعلية الواقعية للأسر السعودية في جميع أنحاء المملكة(الريف/ الحضر) في ضوء نتائج الدراسات والبحوث الفعلية، وتحديد البرامج والخدمات التي تساعد على إشباع ومواجهة هذه الاحتياجات، مع تحديد المؤسسات المعنية بالتنفيذ: مؤسسات أسرية، ومؤسسات عامة، والمسؤولين عن تنفيذ هذه البرامج، وتقويم البرامج، مع تحديد الفئات المستفيدة: الطفل، والزوجين، والشباب، والحقوق والواجبات، والأنظمة والقرارات الأسرية، ورعاية المسنين، وبرامج ومبادرات تواكب التطور والتغير الأسري.
التأثير الإيجابي
وتقول الأستاذة وضحه اللحياني رئيسة اللجنة الاجتماعية الأهلية بالمعابدة بمكة المكرمة، يكون إعادة هيبة الأسرة ومكانتها المجتمعية في ظل المتغيرات من خلال الحرص على تحقيق عدة نقاط:
1- الترابط الأسري والتمسك ببعض العادات القديمة والقيمة مع دمجها بمستحدثات العصر كعادة شرب القهوة بحضور الأب والأم والأبناء المتزوجين وغيرهم والجد والجدة إن وجدا، وكذلك تناول الوجبات بحضور الجميع.
2- القدوة ودورها في التأثير الإيجابي على السلوك ويظهر ذلك جلياً لدى أفراد الأسرة التي يتمثل فيها الوالدين بصفات القدوة الصالحة لأبنائهم ومرجع لهم في أي سلوك أو موقف. فبر الوالدين لوالديهم، وحرصهم على صلة الرحم، والاهتمام بإخوتهم جميعهم يمثل دروسًا حية من الواقع، تكسب الأبناء أهمية الأسرة في أي مرحلة من مراحل العمر.
3- الاحترام والتقدير والحوار الفعال وما له من دور في تقبل وجهة نظر الآخر وبث الألفة والمحبة بين أفراد الأسرة بشكل عام والوالدين بشكل خاص.
أزمة حقيقية
ويشير الدكتور خالد بن محمد السرحان أستاذ علم الاجتماع إلى أنه عندما نتدبر دور الأسرة المتغيرة المعاصرة في تربية أطفالها تربية أخلاقية وتعويدهم الانضباط والاعتدال، نجد أنه لم يصبح من القوة بالدرجة التي يتصورها من لا يعير هذه الظاهرة إلا اهتماماً عابراً، ولقد شغل دور الأسرة في التربية الأخلاقية بال كثير من العلماء وكان (أوجست كونت) أول عالم من علماء الاجتماع يكتب في وظائف الأسرة، ويرى أن التربية الأخلاقية من أهم وظائفها الرئيسية، التي يمكن أن تقوم عليها التربية الدينية والاجتماعية التي تجعل من الفرد مواطناً فاضلاً، ويوضح ذلك مؤكداً على الأسرة تنمية الروح الاجتماعية في أطفالها، وترويضهم على أن يكونوا مواطنين فضلاء، وتعويدهم على تحقيق التوازن في ذواتهم بين مختلف الملكات الناشئة والاعتدال بين الأنانية والغيرة. وكما هو معلوم بأن التنشئة الاجتماعية في المجتمعات اليوم تمرُّ بأزمة حقيقية خلَّفتها ظروف التغير الاجتماعي والاقتصادي، والانفتاح على الثقافات العالمية بتسارع التقدم التقني في مجال الإعلام والاتصال؛ حيث لم تعد المؤسسات التقليدية للتنشئة (الأسرة، المسجد، المدرسة) وحدَها، هي التي تسيطر على نقل المعايير والقيم، وتنمية الاتجاهات لدى الشباب في المجتمع، كما أن الأسرة - رغم ما سبق ذكرُه - ومع ما تعرَّضت له من عوامل التغير الاجتماعي والاقتصادي، تبقى صاحبة الدور الرئيسي في عملية التنشئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي، لكن الإشكالية أنها ورغم كل التطورات التي تحدث من حولها، لا زالت تقوم بتربية وتنشئة الطفل ببعض الأساليب القديمة التي لم تَعُدْ تُجدي نفعًا، وكما قال علي رضي الله عنه: ربُّوا أبناءكم لزمان غير زمانكم.
ووسائل الإعلام أصبحت تضاهي الأسرة قوةً وتأثيرًا على التنشئة الاجتماعية للأطفال وبطريقة سلبية أكثر منها إيجابية.
ناقوس الخطر
وينبه الدكتور خالد السرحان إلى أنه يجب دقُّ ناقوس الخطر للتصدي للآثار السلبية للتنشئة الإعلامية على الطفل، وإيجاد الحلول الناجعة لذلك، ومنها:
1- ضرورة مراعاة القيم والمبادئ الإسلامية، والاهتمام بجعلها منطلقًا لكل ما يقدم للناشئة من برامج، وما يُنشأ لخدمتهم ورعايتهم من مؤسسات في المجالات كافة.
2- العناية بالأسرة- كمؤسسة اجتماعية تربوية- عن طريق مراكز للخدمة الاجتماعية تنشأ في الأحياء، وخاصة الفقيرة منها، للتعرف على مشكلاتها، والعمل على مساعدتها في تخطي ما يعترضها من عقبات.
3- أهمية العمل على تحقيق التكامل بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، وخاصة الرسمية منها، لتفادي التناقض في الأهداف والمضمون فيما تقدِّمه للناشئة في المجتمع، وذلك بالتنسيق والتخطيط الجيد على المستويات العليا.
4- مراعاة الواقعية والبُعد عن المثالية، فيما يراد غرسُه في نفوس الشباب وحثهم عليه، وتوجيههم لترشيد التعرض لوسائل الإعلام المختلفة، وهذا لابد أن يوجد على المستويات كافة في التعليم والإعلام وغيرهما.
5- الاطلاع على تجارب الدول الأخرى في مجال التنشئة الاجتماعية من أجل الإفادة من تجاربها.
6- التخطيط لمحتوى إعلامي هادف ومكثف، يدعم التنشئة الاجتماعية السليمة، ويوعي الأولياء بمدى خطورة وأثر المضامين الإعلامية الهادمة، ومدى خطورة إدمان الإنترنت على الأطفال تربويًّا وصحيًّا ونفسيًّا. وكما هو معلوم بأن التنشئة الاجتماعية عملية تكاملية تواصلية تتطلب تضافر الجهود أفرادًا ومؤسسات ومجتمعات، من أجل تنشئة سليمة لأفراد أسوياء، ومجتمعات حضارية راقية.
مواجهة المتغيرات
وتؤكد الأستاذة زينب بنت جمال الدين فلمبان رئيس جمعية أم القرى بمكة المكرمة، أن الأسرة المسلمة قوامها العقيدة الإسلامية الصحيحة، والتربية الصحيحة هي التي تبني حياتنا، ولكن الإنسان أصبح في الوقت الحاضر يواجه الكثير من المتغيرات التي أثرت في شخصيته، وقد يجد التناقض بين تربيته وبين الواقع الذي أمامه فيقع في حيرة من أمره، بين ما تعلمه وتربى عليه وبين ما يراه في حياته، فلم يعد الآباء(الوالدين) قادرين على التحكم في توجهات الأبناء وتفكيرهم وبناء شخصياتهم، لذلك على الوالدين الإلمام بكل متغيرات الحياة وتفهمها تماماً، وكيفية مواجهتها وربطها بعقيدتنا، وهذا يتم منذ نعومة أظفارهم بناء مفاهيم صحيحة دون تعقيد وتشديد فديننا يسر وليس عسر، مع مواجهة كل التوقعات والتساؤلات التي تصدر من أبنائنا، ومن هنا يتم الربط بين معلمي المدارس وبين أولياء الأمور ويتم من خلالها التوجيه والتكامل الصحيح والإقناع لبناء شخصية متزنة قادرة على مواجهة كل التحديات بقوة. والله يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.