الأشياء التي تبهرك، وتملك عليك حسك ووعيك، وتنال دهشتك وغرابتك إلى درجة الفتنة أو العشق تقف أمامها حائراً متبلبلاً، كذلك أنت أمام البحر المحيط، والفجر المتبلج، والشمس الساطعة، والمعرض الفاتن، والمتحف الباهر.. وكذلك أنت أمام الأحداث الجسام، والفجائع الموجعة.. مات العبادي - عليه رحمة الله - صُدِعتُ عندما علمت بالخبر بمقدار قربه من النفس، وبمقدار مكانته وهيبته، حار فكري، وتبلَّد عقلي، وأصبت بالدوار.. كيف تهوي الجبال، وتتحطم الصخور، ويغضب الموج ويزمجر، وترعد السماء وتقطِّب، ونقف نحن البشر عاجزين عن المواجهة، مطأطئين رؤوسنا بالعجز الذي يكبلنا به الموت، إنه صرخة في دنيانا يذعر لها كل ضعيف وقوي، وكل ليِّن وجبار، وكل صغير وكبير، وكل مريض وصحيح، إنه الزائر البغيض! نضع أيدينا على قلوبنا، يا الله رحمتك.. ونحني رؤوسنا، نهرب من الموت، نتوارى من شبحه، نفر من أسبابه، ولكن إلى أين؟ وإلى متى؟ لا تنفعنا البيوت المحصنة، ولا القصور المشيَّدة.. أنشد عبدة بن الضبيب في رثاء قيس بن عاصم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليتَه منك نعمةً
إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
مات العبادي كما مات قيس بن عاصم، ومات قادة ومفكرون وعلماء وجهابذة وملوك وجبابرة وأحباب وأقارب وأصدقاء، فتركوا غصة في القلب، وشجى في النفس، وقذي في العين، وكَلماً في الحشى، وضرماً في الضلوع، وألماً في الجوانح.. فيا لله من أنفاس حرَّى، ودموع جارية، وجروح غائرة، وقلوب مكلومة، وأكباد مصدوعة، ألا رحمك الله يا أبا خالد.. وكل من عرفك يقول ما قال عبدة في رثاء قيس، أليس كذلك رثاء الجبال الراسخة والقمم الشامخة؟
أكتب عنك اليوم كما كتبتَ أنت عن غيرك، وكما دبَّجتَ الصفحات، وزرعت حقول الثقافة والعلم، أكتب عنك رغم الجروح البالغة بفقدك، لا أعوِّل على مكتبة، ولا على سيرة ذاتية، ومن يكتب عن ساحل البحر، أو يقف على حافَّة المحيط، أو في جوف الصحراء، أو يزور متحفاً، أو يجوس مقبرة إخناتون لا يحتاج إلى كتب يرجع إليها، ولا إلى أوراق يكتب عليها، وما تفيض به الذاكرة، وتمتلئ به المشاعر، وتعج به القلوب، ويقرِّح الأكباد، سيجري مياه الحبر أنهاراً، ويجعل ألفاظ اللغة سيولاً، وتضيء النار على لسانه مناراً، وتشتعل على أسلة قلمه دماً، وتلتهب كلماته وقوداً، وتصرخ ضلوعه استغاثةً..
حين نفتقد عزيزاً مثلك نقف حيارى نتأمل أنفسنا، ونسترجع ماضينا، ونترقب مستقبلنا، من أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ تنذكر آباءنا وأجدادنا، ونتأمل الكون والطبيعة، والحياة والموت، والشجر والحجر، والأوابد والهوام، ونتذكر قدرة الخالق ومعجزة الخلق والتدبير، «أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ».
اليوم فقدنا شخصية بارزة، خطَّت منهجاً، ورسمت طريقاً، وتركت أثراً، وبنت مجداً. ونشرت حكمة، عاشت للمجتمع وللوطن، وفي خدمة العلم والثقافة والأدب، شخصية متميزة بكل المعايير والقيم والمقاييس: في العلاقات العامة، والإدارة والأخلاق والإبداع حتى سار ذكره في كل طبقات المجتمع، منحته الطائف مكانة ومنحها حباً، منحها سمعة طيبة، وذكرى حميدة، فكانا توأماً لا ينفصل.
مرافئ الحديث عن العبادي متعددة الفروع، متنوعة المصادر، متشعبة النواحي، وأنت في ظل هذه الدوحة الوارفة كما قال العربي: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله.. والعبادي من أي الأبواب اقتحمته، أو ولجت إليه، وجدت عنده البشاشة والأنس وطيب الحديث، والعلم والأدب والثقافة، كان يستمتع رحمه الله بذكر قصة أبي السائب المخزومي مع أبيات العرجي:
باتا بأنعم ليلةٍ حتى بدا
صبحٌ تلوَّح كالأغرِّ الأشقر
فتلازما عندَ الفراق صبابةً
أخذَ الغريمِ بفضلِ ثوبِ المعسر
فكأنه كان العرجي أو المخزومي رحم الله ثلاثتهم.
سمعت عن العبادي عندما كنت طالباً في مصر في أوائل ستينات القرن الماضي من أبناء أخ لي حال عودتهم صيفاً من مدرستهم الابتدائية بالطائف، وحديثهم عن مدير مدرستهم العبادي الذي يدخل الفصول ويناقشهم في القواعد التوحيد والفقه، ويستحضرون شخصيته ولغته، ورفقه بهم، وحنوَّه عليهم، علق اسم العبادي آنذاك بذاكرتي، واختمرته الذاكرة خمسين سنة أو أكثر..
هذا هو البستان الأول في مزرعة العبادي، بستان التربية والتعليم الذي يوجه النشء، وبربي الأجيال، ويكسب الإنسان خبرة التعامل مع المجتمع، ويراعي فروقهم الفردية، ومقتضيات أحوالهم النفسية، ويمنح المعلم قدرة على حل المشكلات، ويكتسب ثقة الناس واحترامهم.
حدثني رحمه الله: إنه في مسيرته التعليمية كان يشكو من قلة المعلمين، وصعوبة الحصول عليهم، ووقع في مشكلة بسبب هذه النقص، وأنه انتهز حلول موسم الحج، وتصيد عدداً من المدرسين الفلسطينيين، أربعة ذكرهم لي بالاسم، ولمس فيهم الخير، وقدم بهم إلى الطائف، وأرسل أوراقهم إلى المعارف، وتم التعاقد معهم، وأمضوا معه عدداً من السنين، وما زال يذكر هذه الحادثة، ويثني على عملهم وأخلاقهم.
أمضيت ثلاثين سنة في أبها ما بين إدارة التعليم مشرفاً تربوياً، وبين كلية المعلمين بها أستاذاً جامعياً، ثم آثرت الانتقال إلى كلية المعلمين في الطائف، وانتظمت فيها، واحتجت إلى مدة من الزمن لأتعرف على المدينة ومعالمها ومعاهدها، وأحسست في البداية بفراغ كبير؛ وأحتاج إلى بوابة لدخول نادي الطائف الأدبي، وهذا لا يأتي ارتجالاً، ولا في عشية وضحاها دون تمهيد وتسلسل.. وكنتُ من قبل على علاقة قوية بنادي أبها الأدبي، ورئيسه محمد الحميد رحمه الله، وأنا لا أنمو إلا في ظلال الثقافة والأدب.
وهنا يبدأ الجانب الذي أعرفه من البستان الثاني في مزرعة العبادي- النادي الأدبي وما ينصل به.. كان العبادي وثيق الصلة بعميد كلية المعلمين بالطائف الدكتور سالم القرشي، وأفضي إليه أنه يبحث أن أستاذ متمكن في اللغة العربية، يتابع مطبوعات النادي: من الدواوين والكتب ومجلة عكاظ التي يصدرها النادي، ويقوم بالمراجعة والتصحيح، فقال له العميد: حاجتك عندنا في الكلية، لقد قدم إلينا أستاذ أردني، صفته كذا وكذا..، يحقق رغيتك ويلبي طلبك، وحسب شروطك في المستوى، وأكد له العميد مقدار ثقته بما يقول، حسبما أبلغني.. اتصل بي العميد وطلب مني مقابلة الشيخ علي- رحمهما الله.
كان هذا هو اللقاء الأول، وللقاء الأول مكانته في نظرية أبي تمام حبيب بن أوس المشهورة، وجدت فيه طيب القلب، وبعد النظر، والبشاشة التي لا تغادر محياه، والصدق في أقواله، والجد في عمله، والصراحة في مواقفه، وتقديم الخير للناس، وروح الفكاهة والمداعبة، وحب العلم والأدب والثقافة، وما شئت من أخلاق العلماء، في ساعات الجد.. وفي لحظات الهزل والفكاهة.
وكان النادي في هذه الحقبة يعج بالحركة، ويموج بالنشاط، ويرتاده الزوار، واستضاف العديد من الأعلام والوجهاء، والعلماء والأدباء، لا تستوعبهم الذاكرة، لكثرتهم وبعد الزمان، ولكني أذكر منهم: محمد بن سعد الشويعر، ومحمد بن علي العقلا، ومحمد بن مريسي الحارثي، وسلطان بن سعد القحطاني، ومحمد بن سعد بن حسين، وعبد الله الحيدري، وعثمان الصيني، وغيرهم، ومن الشعراء: محمد بن سعد الدبل، وإبراهيم العواجي، وأحمد سالم باعطب، وخليل الفزبع، وظافر القرني، واعتذر لمن لم ترد أسماؤهم وهم كثير، كما ألقيت وأدرت العديد من المحاضرات، وكان لي مدخلات في معظم المحاضرات، وأذكر أنني حينما رغبت في الانتقال إلى الجامعة في الرياض سأل أحد مسؤولي الجامعة- العبادي عني بحكم إقامتي في الطائف، فقال له العبادي رحمه الله: «الرجل إذا علق على موضوع لا يترك لغيره بقية للحديث، ولا يتوقف حتى نأخذ اللاقطة من يده» هذا ما أبلغني به شخصياً رحمه الله، وهنا أتذكر كلمة أخرى لمدير أحد مكاتب الصحف في الطائف عقِبَ تعليقي على إحدى المحاضرات، قال لي: «لقد أحدثت منذ قدومك إلى الطائف نهضة أدبية» والعهدة عليه في ذلك، ولولا أنني بصدد الحديث عن نشاط الطائف وسيرة العبادي ما ذكرت ذلك، وأعتذر عنه.
وقد راجعت العديد من الدواوين، أذكر منها: فجر أنت لا تغب، لإبراهيم العواجي، وعندما تتعرى الأيام لأحمد سالم باعطب، والإياب لدخيل الله أبو طويلة، وذو العصف والريحان لبهاء عزي، ومن الكتب الإعلام للعميد صالح الجودي، وسوق حباشة لعبد الله أبي داهش، والوراقون في الحجاز، لعبد الوهاب أبي سليمان، والنقد الأدبي في المملكة لسلطان القحطاني، وأيام أندلسية لخليل الفزيع، ولي: كتاب مكة في شعر حسين عرب، وأكثر من عدد من سوق عكاظ، إحداها بمناسبة مرور عشرين عاماً على تولي الملك فهد رحمه الله، نشرت فيها بحثا عن: الأمن في المملكة في عيون الشعراء، وآخر عن: فلسطين في أقوال الملك فهد رحمه الله، ومداخلات أدبية في جمعية الفنون كانت تنقلها سوق عكاظ.
ومن نوادر المراجعات أن شخصيةً كبيرة رحمها الله قدَّم للنادي كتاباً للنشر، وتمت الموافقة عليه، واهتم به الشيخ علي كثيراً وأوصاني به، وحينما انتهيت من مراجعته اتصل بصاحبه وأخبره بذلك، فطلب الرجل أن يطلع على الكتاب، وكان يقضي إجازة في بيروت، فأرسل الشيخ علي نسخة منه إلى بيروت، حسب طلب الرجل، فاطلع عليها وأعادها، فلما فتحتُ النسخة العائدة وجدتها قد غصت بالخطوط الحمراء، فدهشت ثم اتضح أن صاحبنا لا يفرق بين همزة الوصل والقطع، فأمسك بقلم أحمر، وأخذ يضع الهمزات (الشياطين) بلا حساب في مثل: اجتماعية واقتصادية واشتراك وانفعال وانقشع واعتمد، فأطلعت الشيخ علي، فانفرط في الضحك، ولم يكتف صاحبنا بما صبغ به الصفحات بقلم «ممنوع المرور»، بل اتصل بالشيخ علي، وأخذ يذم المصحح الذي لا يفرق بين أنواع الهمزات في زعمه، وشر البلية ما يضحك.
توثقت علاقتي بالعبادي هذا الرجل العظيم، وتخطى ذلك إلى درجة من المسامرة والمفاكهة، وتبادل الآراء، وقرأت معه كتابيه: «نظرات في الأدب والتاريخ والأنساب» وتناقشنا طويلاً في نقده للشيخ الطنطاوي حول رأي الطنطاوي ألا تقوم الاختبارات الطلابية على استرجاع المعلومات وتلقينها، وأن من الممكن أن يختبر الطالب والكتاب بين يديه، ويكون الاختبار استنتاجياً، وكذا كتابه «ما هكذا يكتب الشعر» وسبب هذا الكتاب ما يقع من خلل في عروض بعض أدعياء النظم، وعرض جلسة أصدقاء حلمنتيشية، ينظم أحدهم بيتاً أو شطراً والآخر يكمله، فوقع فيها كثير من الخلل، فحداه ذلك إلى تأليف الكتاب، وحينما قمتُ بمراجعة الكتابين وجدت الطابع يضع همزة كلمة شيء على الياء وقبلها ياء في كل مرة، فلما أخبرته قال: إن الطابع أخبره أن العيب في نظام جهاز الحاسب، فأخبرته أن هذا الكلام غير صحيح، وعلى الطابع أن يعيد النظر، ويكتب الهمزة على السطر.
انتقلت إلى الرياض، وظل حبل الوداد بيننا متصلاً، وكان آخر مرة قبل خمس سنوات، بينما كنت في السيارة عائداً من إحدى الندوات، فإذا بالجوال يدق بغير الرقم الذي أعرفه، والتبس عليَّ الصوت، قلت: مَنْ أبو عصام؟ قال لي: من أبو عصام هذا؟ فعرفت صوته، قلت له آسف أستاذي! قال لي: من أبو عصام؟ لن أتكلم حتى أعرف من أبو عصام هذا؟ قلت: ابن عم لي يقيم في أبها، وانفتح بعد ذلك الحديث، فما أمتعه! وما أطيبه! كالسلسبيل العذب، الذي لا أنساه أبداً، وكان هذا آخر اتصال بيننا، وجفت الينابيع، اتصلت بهاتفه لديَّ فرد علي شخص أنكرني وأنكرته، وأفاد أنه استلم الرقم حديثاً من إدارة الهاتف، وأن أناساً آخرين اتصلوا به وسألوه عن هذا الاسم، فشكرته واعتذرت إليه، واتصلتُ بأكثر من واحد من الأصدقاء في الطائف سائلاً عن الشيخ، ويكون الجواب لا نعرف!!
ألا عليك رحمات رب العالمين أيها الرجل العظيم والمعلم والمربي والأب والأخ والصديق.. أودعناك عند رب غفور رحيم، لا تضيع عنده الودائع، اللهم أكرم نزله، واغفر ذنبه، واجعله من «الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً» [النساء69]
** **
- أ.د. محمود إسماعيل عمار