قال عليّ الطنطاويّ: «فمن أين جئتم بهذه القاعدة، وهي أنّ كلمة (إذا) لا تدخل على الاسم، وأنّها لا تدخل إلاَّ على الفعل؟ فإذا قرأنا قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ}، وقوله: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ}، وقرأنا قول لبيد: (إذا القوم قالوا من فتًى خلتُ أنّني...)، وأبياتًا مثلها لا يبلغ العدّ حصرها، قلنا: إنّ السماء فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور، وتقديره: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ}. ما هذا الهذيان؟ وهل سمعتم عربيًّا عاقلًا يقول هذا الكلام؟ ولماذا لا نعلّم التلاميذ أنّ السماء في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} مبتدأ مثل كلّ اسم مرفوع يبدأ به الكلام»(1)
في هذا النصّ وقفتان أريد التوقّف عندهما، أولاهما: ذهاب علي الطنطاويّ إلى أنّ الاسم المرفوع بعد (إذا) يعرب مبتدأً لا فاعلًا لفعل محذوف، وهو في ذلك يوافق الرأي المنسوب إلى الأخفش الأوسط (ت215ه) الذي يقول عنه الأشمونيّ: «وأجاز الأخفش إضافتها [أيْ: إذا] إلى الجمل الاسميّة»(2)، ويقول عنه ابن مالك: «وقد تغني ابتدائيّة اسم بعدها [أيْ: إذا] عن تقدير فعل وفاقًا للأخفش»(3)، وينسب هذا الرأي أيضًا إلى نحويّي الكوفة قال عنه خالد الأزهريّ: «ممّا استند إليه الأخفش، والكوفيّون من جواز دخول إذا على الجملة الاسميّة فمثل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} في التأويل»(4) ويتبنّى الطنطاويّ هذا الرأي من غير الإشارة إلى من قال به من النحويّين المتقدّمين، وهذا يعني أنّ (إذا) عنده تضاف إلى الجمل الاسميّة، كلّ هذا الحديث خاصّ بـ(إذا) الشرطيّة، وفي إطلاق القول بجواز إضافة (إذا) إلى الجمل الاسميّة نظرٌ -من وجهة نظري- لأنّ معنى الشرط، وجوابه من المعاني التي تؤدّى بالأفعال لا بالأسماء، ولعلّ هذا ما جعل السيرافي، والسهيلي ينقلان رأي سيبويه الذي يقرّر فيه أنّه «لا يمنع وقوع المبتدأ بعد إذا لكن بشرط كون الخبر فعلًا»(5)، ويضيف السهيليّ أنّ «سيبويه يجيز على رداءة الابتداء بعد إذا الشرطية، وأدوات الشرط إذا كان الخبر فعلًا»(6).
ومن ناحية أخرى لم أجد هذا الرأي المنسوب إلى الأخفش في كتابه معاني القرآن عند حديثه عن الآية: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} إذ يقول: «وأمّا: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} فعلى معنى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} إذا السماء انشقّت على التقديم والتأخير»(7)، ماذا يعني الأخفش بالتقديم والتأخير في هذا السياق؟ هل يقصد تقديم الفعل (انشقّت) على الاسم (السماء) فتكون (إذا) مضافة إلى جملة فعليّة؟ إنّ القول بهذا يعني أنّ ما نسب إلى الأخفش من إجازته لإضافة (إذا) إلى الجمل الاسميّة غير دقيق، أو أنّ الرأي الذي نقله عنه بعض المتأخرين قد ورد في كتاب له لم يصل إلينا.
وقد نسب إلى الكوفيّين أيضًا القول بإضافة (إذا) إلى الجمل الاسميّة، ولم أجد له ذكرًا فيما وقفتُ عليه من كتب نحويّي الكوفة، فهذا الفرّاء (ت207هـ) يقول معلّقًا على الآية: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} «وقد فسّر جواب: إذا السماء -فيما يلقى الإنسان من ثواب وعقاب- وكأنّ المعنى: ترى الثواب والعقاب إذا انشقّت السماء»(8)، وكما هو واضح ليس في تعليق الفرّاء حديث عن إضافة (إذا)، وقد راجعت كلًّا من المقدّمة في النحو التي ينسبها بعضهم إلى عليّ بن المبارك الأحمر الكوفيّ (ت194هـ)(9)، ومختصر النحو لابن سعدان الكوفيّ (ت231هـ)(10)، والموفي في النحو الكوفيّ للإستانبوليّ (ت1349هـ)(11)، ولم أجد ذكرًا لنسبة هذا الرأي إلى الكوفيّين.
أمّا الوقفة الثانية فهي الخطأ في نسبة البيت: (إذا القوم قالوا من فتًى خلت أنّني...) إلى لبيد بن أبي ربيعة -رضي الله عنه-، والذي أعرفه أنّ هذا البيت من معلقة طرفة بن العبد البكريّ، وقد اتّهمتُ حفظي، وراجعت ديوان لبيد(12) فلم أظفر بشيء، وعدتُ إلى ديوان طرفة(13) فوجدته ضمن معلّقته، وراجعت أيضًا كلًّا من شرح التبريزيّ على المعلقات(14)، وشرح النحّاس على المعلقات(15)، وشرح الأنباريّ على المعلّقات(16)، وشرح الزوزنيّ على المعلّقات(17)، وشرح الشنقيطيّ على المعلقات(18)، وجمهرة أشعار العرب للقرشيّ(19)، والأشعار الستة الجاهليّة للأصمعي(20).
وفي الختام أرجو ممّن يجد نسبة القول بإضافة (إذا) إلى الجمل الاسميّة في كتب الأخفش الأوسط الأخرى، أو في كتب نحويّي الكوفة أن يطلعني عليها؛ لمزيد من التوثيق لهذا الرأي المهمّ.
الحواشي:
(1) الطنطاويّ، عليّ: فصول في الثقافة والأدب، جمع وترتيب: مجاهد مأمون ديرانية، دار المنارة، جدّة، المملكة العربيّة السعوديّة، الطبعة الأولى، 2007م، ص164.
(2) الصبّان، محمّد بن عليّ: حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ على ألفيّة ابن مالك ومعه شرح الشواهد للعيني، دار إحياء الكتب العربيّة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، مصر، د.ط، د.ت، جـ2، ص259.
(3) ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن: المساعد على تسهيل الفوائد شرح التسهيل لابن عقيل، تحقيق: محمّد القاضي، مكتبة الثقافة الدينيّة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2016م، جـ1، ص416.
(4) الأزهريّ، خالد بن عبد الله: شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو، تحقيق: باسل عيون السود، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1427هـ/ 2006م، جـ1، ص701.
(5) ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن: المساعد على تسهيل الفوائد شرح التسهيل لابن عقيل، جـ1، ص416.
(6) ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن: المساعد على تسهيل الفوائد شرح التسهيل لابن عقيل، جـ1، ص416.
(7) الأخفش، سعيد بن مسعدة: معاني القرآن، تحقيق: فايز فارس، المطبعة العصريّة، الكويت، الطبعة الثانية، د.ت، جـ2، ص534.
(8) الفرّاء، يحيى بن زياد: معاني القرآن، تحقيق: عماد الدين بن سيد آل الدرويش، عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1432هـ/ 2011م، جـ2، ص966.
(9) الأحمر، خلف: مقدّمة في النحو، تحقيق: عزّ الدين التنوخي، وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1381هـ/ 1961م. وانظر حول الشكّ في نسبة (المقدّمة في النحو) العمّاري، فضل: خلف الأحمر الشاعر العالم، مكتبة توبة، الرياض، المملكة العربيّة السعوديّة، الطبعة الأولى، 1418هـ/ 1998م، ص85-ص87.
(10) انظر ابن سعدان، محمد بن سعدان بن المبارك: مختصر النحو لابن سعدان الكوفيّ، تحقيق: حسين أحمد بوعبّاس، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعيّة، الكويت، الحولية السادسة والعشرون، 1426هـ/ 2005م.
(11) الإستانبولي، صدر الدين الكنغراوي: الموفي في النحو الكوفيّ، تحقيق: محمد بهجة البيطار، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، دمشق، سوريا، د.ت.
(12) انظر العامريّ، لبيد بن أبي ربيعة: شرح ديوان لبيد بن أبي ربيعة، تحقيق: إحسان عبّاس، التراث العربيّ وزارة الإنباء والإرشاد، الكويت، د.ط، 1962م.
(13) انظر العبد، طرفة، ديوان طرفة بن العبد شرح الأعلم الشنتمريّ، تحقيق: لطفي الصقّال ودرّية الخطيب، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 2000م، ص41.
(14) التبريزيّ، يحيى بن علي بن محمد، شرح القصائد العشر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة، مصر، ص253.
(15) النحاس، أحمد بن محمّد، شرح القصائد التسع المشهورات، تحقيق: أحمد خطّاب، ج1، دار الحرية للطباعة، بغداد، العراق، 1393هـ/ 1973م، ص163.
(16) الأنباريّ، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف، الطبعة الخامسة، ص183.
(17) الزوزنيّ، الحسين بن أحمد، شرح القصائد السبع، تحقيق: بلال الخليلي وأحمد عبد الحميد، درّة الغوّاص، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1441هـ/ 2019م، ص201.
(18) الشنقيطيّ، أحمد بن الأمين، شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، دار الكتاب العربيّ، بيروت، لبنان، 1424هـ/ 2004م، ص45.
(19) القرشيّ، محمد بن أبي الخطّاب، جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، تحقيق: محمد علي الهاشمي، دار السلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1435هـ/ 2014م، ج1، ص434.
(20) الأصمعيّ، عبد الملك بن قريب، الأشعار الستّة الجاهليّة اختيار عبد الملك بن قريب الأصمعي ورواية أبي حاتم السجستانيّ مع زيادات الأعلم الشنتمريّ، تحقيق: يوسف السنّاري، دار الغوّاص، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1441هـ/ 2020م، ص471.
** **
- د. فهد بن عبد الله الخلف