«الجزيرة الثقافية» - مسعدة اليامي:
نبدأ كم تحلق أفئدة الطير ببيتين من قصيدة قريبة إلى قلبك؟
لا يسهر الليل إلا شاعر فُتنا
هنا الدفاتر والأقلام شاخصة
هنا الدموع ألحاظ تلاحقنا
وكل صامتةٍ ثغرُ يحدِّثنا
ومن يسافر يفع الثمنا
- كيف دخلت إلى مغارة الإبداع؟ وهل كانت مغرية حتى دلفتِ إليها؟
كنت أنصت للشعر منذ صغري حين يردده والدي على زائر لمكتبته. حتى وجدت نفسي أكتب أول قصيدة لي في مكة ووقتها كان عمري 9 سنوات. شجعني والدي وقال لي يومها بأنني سيكون لي شأن عظيم إذا كبرت. ومن يومها انطلقت في عالم يشبهني في شكله المبسط. ابتداء من مكتبة المدرسة واستعارة الكتب منها وتلخيصها والتمرين على مهارة الإلقاء وربما تمثيل الشخصيات على مسرح المدرسة. مرورًا بمادة التعبير والإنشاء وكنت المرجع للكثير من الطالبات في هذه المادة لتتحول فيما بعد إلى كتابة الخواطر في المرحلة المتوسطة وتبدأ معها القراءة الجدية، والتي كانت بدايتها في الكتب الدينية مع قراءة خفيفة لبعض القصص والروايات. بعدها دخلنا في عوالم المنتديات وصقلت الموهبة بالممارسة حيث لا تكفي الوراثة في الكتابة التي كانت في الأساس شعرا ثم توسعت لتصبح بلقيس الشاعرة والقاصة مع شيء من المقال والرواية.
بلقيس تفر إلى الشعر إذا أرادت أن تنصهر وللسرد إذا أرادت التوضيح. والقلق قاسم مشترك بينهما فهو لا يهدأ إلا حين يضع نقطته على السطر منذ أن يباغته شيء يشبه الوحي المنزَّل. أو بشكل أوضح الكاتب مثل الأرز, كما يقول عنه الدكتور حسين سرمك «حين تكتب نثرا فإنك تطبخ الأرز, وعندما تكتب شعرا فإنك تحول الأرز إلى نبيذ. الأرز المطبوخ يجعلك تشبع. والنبيذ يجعلك تثمل».
قد يقول قائلهم بأنني ربما عاطفية جدا والعاطفة يناسبها الشعر. لكنني أقول له إن الأسباب العاطفية غير كافية. وإن كانت هي الدافع الأساس في كتابة الشعر. في الشعر أعتبر نفسي أنني أمام ردة فعل ومكان آمن أحصن نفسي فيه وأحاول أن أفهم العالم من خلاله. بالنسبة للرواية أو القصة فالأمر يختلف تماما. أنت تكون أمام فكرة. تحتاج إلى انضباط. ترتيب أفكار. تكريس نفسك لهذا الفعل ولا يختلف عندي في القصة أو الرواية سوى في المدة الزمنية. كلاهما ينبغي أن يعطى الوقت الكافي من التركيز والتزاوج بين العفوية والفكرة المدروسة. المهم أن أنسى أن أكون بلقيس وأكون فقط الشخصية التي أمامي.
- الموهبة تكفي أو ماذا تحتاج؟
كل جمال يكمن في نقصه! بيد أننا مجبولون على البحث عن مكامن الأشياء وأسرار الموهبة التي لا شك بأنها بحاجة إلى تكريس الفعل والتفكير الدائم لتطويرها والسعي الجاد. نعم، يلهمنا الشغف ويدفعنا التمرين.
- قد يسأل بعضهم مثلاً ما الكتاب الذي إذا قرأته سأصبح كاتبًا؟ أو ما الدورة التي إذا التحقت بها سأصبح كاتبًا؟
من يطرح هذه الأسئلة فهو يبحث عن عصا سحرية يتحول بها من حال على حال. وهذا محال في كل الأحوال. لا يمكن أن تصل إلى هدف عظيم عبر وسيلة سريعة وبسيطة.
هل أخبركم سرًا؟ إنها المران!. تريد التميز والإبداع. أكتب كل يوم. نعم كل يوم. اكتب مشاعرك. آراءك. قصة. معلومة. ليس بقصد النشر بل للمران. حتى الكتاب الكبار إذا توقفوا فترة عن الكتابة فهم يجدون صعوبة في العودة إلى الكتابة. اللفظ لا يطاوعهم ولا يستجيب والأفكار تكون مشوشة. لكن بالمران تعود إليهم رشاقتهم. طبق هذه القاعدة على أي هدف تسعى للوصول إليه. نعم اقرأ ما تشاء أن تقرأ. اطلع على تجارب سابقة. التحق بدورات تدريبية. هذا كله جيد لكن المحك الأساسي في الممارسة اليومية حتى تصل إلى ما تريد وهذه المتعة بعينها.
اقرأ أكثر مما تكتب واجعل قراءتك مختارة وليست عشوائية. لا تتبع الموجة فيضيع وقتك بين كتب الخواطر والرحلات والكتب الخفيفة والمقالات.
فإن كانت الموهبة لا تكفي هي تبحث بلا شك عن عدوى المبدعين وأعني بالاجتهاد فيه الإشراق والاكتشاف الجميل.
- مع كثرة المسؤوليات والمشاغل الحياتية كيف عبدتِ طريقكِ إلى عالم الكتابة؟
المسؤوليات أحيانًا تكون ممتعة وأحيانًا تكون مثل الأغلال التي تعيقنا عن الحركة، وأعني بها عن الكتابة التي تمثل لدي الزاد والطاقة. لذا فإن الحياة قصيرة وكل ما فيها مقدر مكتوب، لذا علينا أن نتجاوزه فكل مرٍّ سيمر وكل شيء سيمضي بحلوه وبمره. التفاؤل أصنعه مع أول نفس أستشعره بعد صحوي من النوم. فأي يوم جديد هو هدية من الله، وهبها إياك لتصنع وتنجز وتستمتع. معية الله دائمًا هي من تسندني وتشعرني بالسعادة وتجعلني أفكر بأن هذه الحياة رحلة وليست خطة عمل. لذا ما إن يهبط عليَّ وحي الكتابة فإنني أؤجل ما يمكن تأجيله وأبحر في عوالمي التي لا تكتمل في الغالب إلا بعد المراجعة وسكون ما بداخلي وكل من حولي.
- كم من الوقت تمضين ما خير جليس وأي أنواع الأدب تقرئين بكثرة؟
تشغل القراءة معظم وقت فراغي. وقد يطول أحيانا إلى ساعات في اليوم الواحد، وقد أقتصره على ساعة يوميًا. أما عن الكتب التي تستهويني فالشعر أولاً ثم الرواية ثم التاريخ والفلسفة ثلاث محطات إبداعية، عبرت من خلالها إلى المشهد الثقافي السعودي والعربي.
- (الشعر, القصة, الرواية) كيف كانت في عين النقد؟
جميع ما تفضلت به مر على نقاد متمرسين كتبوا عن تجربتي في الشعر والرواية والقصة. منها ما وصل لمجلات محكَّمة ومنها درس في جامعات عربية وغير عربية، ونال شيئًا منها الترجمة. النقد مرآة تتفحص فيها نقاط ضعفك فتعمل على تقويتها كما أنه يلبي نداء فطرة الجمال الذي جبلنا على حب سماعه وتذوقه في أرواح الآخرين.
- الكتابة رغبة أو قدر أو وحي ينزل على الكاتب فلا يمتلك القدرة عن الابتعاد عنه؟
حين يفكر الكاتب في مواصلته لفعل الحياة فإنه سيجد نفسه محكومًا بالقدر الذي اختاره ويُسِّر له. وأعني بذلك القراءة والكتابة على حدٍّ سواء، والانغماس في ملذات فكرية كهذه يحتاج إلى فواصل زمنية أشبه بالإجازة العقلية وإنعاشًا لحياته الشخصية التي قد تذوب وتتبدد في خضم انشغال العقل بما يلهمه ويغذيه. ومن ثم ليعود إلى حياته الحقيقية ربما التي يجد نفسه ويستمتع بها. من هنا وجب طرح هذا السؤال الوجودي الكبير. حين نقول لماذا نكتب ولمن؟ وأسأل نفسي كل يوم حين أمسك القلم وأكتب.
قلّ أن اقترن العذاب بالمتعة، واللذة بالألم، لكنني وجدت ذلك مع الكتابة. فهي نموذج حيوي لالتقاء الأضداد وتعايش المفارقات وتشابكها. وقد تكون عذابات الكتابة ومكابداتها ناجمة في الأصل عن قدر وإلهام. هي ليست خيارا طوعيا أستطيع أن أتلافاه أو أتجنبه. هكذا ينمو الكاتب في ظل ذلك الإلحاح المضني لغمغمات الداخل، مما يجعلني في قلق دائم. هذا القلق لا يأتي فقط من كونهم لا يجدون في الحياة ما يتقنونه سوى الكتابة، بل لأن الفسحات القليلة الفاصلة بين مخاض وآخر لا تكاد تكفي لالتقاط الأنفاس، الشعراء بالذات والكتاب بشكل عام عليهم أن يظلوا متأهبين دائماً لتلك الزيارة المباغتة التي قد يتأخر حدوثها إلى زمن طويل، لذا فالكتابة ليست رديفة أبدًا للطمأنينة والرضا التام، بل هي الابنة الشرعية للقلق وتصدعات النفس والبحث المضني عن الحقيقة. ولعل أكثر ما يرهق الكتاب والفنانين هو كون القضايا التي تشتغل عليها أعمالهم تظل معلقة دائماً في فضاء النقصان واللاتحقّق. كذلك هو الأمر مع القضايا الوجودية الأكثر تعقيداً، الأسئلة المتصلة بالحب والزمن والفقدان والشيخوخة والموت وتبدّل المصائر ومعنى الحياة، تظل معلقة أبداً في فضاء الشكوك والحيرة الملغزة. كما أن شقاء الكاتب يتصل اتصالاً وثيقاً بسعة مداركه وعمق معرفته بالأشياء، وبسبره الجحيمي لأغوار الحقيقة الإنسانية. تجربتي في الكتابة عن العراق والبوسنة مثلاً أرقتني كثيرًا وقد كنت أبكي أحيانا وأترك القلم وأولادي مرات يدخلون علي، (إيش) فيكِ ماما وأنا أبكي. وهو ما عبّر عنه المتنبي بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ
وأخو الجهالة بالشقاوة ينعمُ
لكن الكتابة، تعطيني أكبر متعة بعد متعة الاكتشاف وهي الانتصار على الصمت! بنشوة لحظة الإلهام والتجلي وبأنك محتشد بالحياة. لذا فالتفكير في الكتابة هو الأهم وليس الاتجاه للسوق. العمل الأدبي ليس لهوًا أو مسألة علاقات.
- الشعر متى شعرت أنك ممسكة بلجامه وعندك القدرة على أن تقفزي به في المحافل والأوعية المخصصة للنشر؟
حين وجدت من أكتب عنه ومن يسمعني ويبكي أحيانًا من أجل قصيدة. فالبكاء أسمى وأعذب وأصدق عاطفة ممكن أن يعبر عنها الإنسان. في ظل تغليف المادة حياتنا حتى باتت هامشًا بدل من أن تكون متنًا.
دعيني أحكي لك شيئًا حلوًا عن الشعر. اشربيه ولينعش ما أقوله وأصفه أخواني القراء:
فمك حكاية من السكر
الكلام معك يشبه الشعر
والنظر إليك ثورة
الشعر يعيدني للحب وللطموح
ومعك أسعى لاستعادة إيماني المفقود
على جسدك تتوسع مملكتي
وبين أضلاعك أدفن جوهرتي
ثروتي أنت
يقول جلال الدين الرومي
إن سألتني كم مرةً جئت في بالي سأقول مرة لأنكَ أتيتَ ولم تغادرني
أنت ملتصق بفمي
وهو يسبح لله
أو يضحك مع الأطفال
حتى وهو يمضغ الخبز
أو يشرب الشوق
أو.. لأنك تبتكر القصيدة
كثيفة كقُبلة
وجيزة كلحن قديم
أخاف أن يكبر حبي
أخاف أن ينفجر هذا القلب
ثمة أشياء أجلناها للقاء قادم
سعادة غريبة وليل طري
حين أكتب عن الحب فإنني أكتب عنك حتى عن الحرب والمجاعة والكوارث الطبيعية وطوابير المراجعين في دائرة حكومية عن المطابع وتحولات الكتابة،
ونتائج التنمية البشرية والمنظمات العالمية فإنني أكتب عنك، كأن تكون قلما في جيب كاتب أو سيجارة بين إصبع عابر حياة أو وردة خرجت بين بلاطات القاعة فلم يحطمها أحد..
لكأنني أنظر إليك في باطن كفي!
أعرفك
وأعرفني
متاح للنظر
وللسر
وما بين التوصيف والتأويل بَون شاسع.
قبل أن تكتبي الشعر لمن قرأت بكثرة وهل يراودك الحلم بأن تسمعي إحدى قصائدك مغناه؟
الأسماء تطول والرموز كثر. ولأننا بشر ليس فينا الكمال فإنني آخذ ما أحتاج إليه وما يلبي شغفي المعرفي والروحي بالقدر الذي يثريني. ولعل أسماء مرت بخاطري الآن لا يمكنني تجاوزها: الشيخ الطنطاوي ومحمد الغزالي. الشاعر العراقي يحيى السماوي وعدنان الصائغ لهما فضل كبير علي. كما أنني أتلهف لشعر فاضل العزاوي، ومحمد رشو، وزياد عبدالله، وعبدالله ثابت، ومحمد زايد، ولسرد سعد رحيم، ووحيد غانم، وعبده خال، ولأمالي علي ثويني وفاضل الربيعي.. والقائمة لا تنتهي.. أما ما يخص القصائد المغناة فأنا لا أكتب شعرًا غنائيًا وإن كنت أتمنى ذلك.
- يقال: إن الكاتب ابن بيئته أنتِ ماذا تقولين عن بلقيس التي كتب القصة والرواية عن شعوب خارج بيئتها السعودية؟
نعم. وبيئة الكاتب التي أعيش فيها هي كل ما يلمس قلبي ولو كان قُطرًا بعيدًا لا أسكنه. أنا أؤمن أشد الإيمان بالإنسان الذي يتعامل معه الصحفي بالعدد حين يكون ضحية. فيما أتعامل معه على أنه مشروع حياة. له أحلامه وطموحه..
دعيني أحدثك عن أقرب تجربة لي وهي رواية «بيجمان الذي رأى نصف وجهها» بحكم أنها كانت تحديا كبيرا، ويتناول قضية خاصة وحساسة، وقد أبليت فيها بلاء حسنًا. بدأت من سؤال ابنتي منيرة عن ذكرى مذبحة سبرنيتشا وكانت وقتها تعرض في نشرة الأخبار. فقررت أن أجيبها وأجيب هذا الجيل الذي قد يسمع فُتات ذكرى تُعتبر مأساة للقرن العشرين. حاولت فيها إسقاط وقائع مرت بها البوسنة على شخصيات متخيلة. ولا أخفيكم عن صعوبة الوصول إلى المعلومة الدقيقة، فقد كانت شحيحة باللغة العربية. صحيح بأنه الرواية ليست مخطوطًا توثيقيًا تاريخيًا ولا كتاب إرشادي بالمعنى الدقيق لكن ضرورة الوصول إلى الصورة الصحيحة بأسمائها وشخوصها وتواريخها وزمانها ومكانها الحقيقي كان مطلباً مهماً في هذا العمل الذي أضناني كثيرًا. تواصلت فيه بالسفير البوسني في الرياض وقمت باللقاء به شخصيًا وعرض مسودة العمل. كذلك السفير البوسني في الكويت ومجموعة من الصحفيين الحربيين الذين لم يألوا جهدًا في مساعدتي بالتدقيق والتمحيص حتى خرج العمل، وهو يحمل لوحة غلاف تقول ما لم يمكن قوله. وقد أوقفت 10 % من صالح الكتاب لأيتام البوسنة. وكان هذا فتحاً في جميع مؤلفاتي، ولا بد أن أشير إلى أن عملي القادم تدور أحداثه بين النماص واليمن. عمل يحمل تحديا آخر لهوية الإنسان ومآلاته وتقاطع مصائره مع أحب وأبغض الناس إليه.
- ما طقوسك في كتابة القصة والرواية؟ وكيف تعملين على تغذية ذلك الفن قبل البدء في الكتابة؟
ليس لدي وقت محدد للكتابة، وإن كان الكتابة تهجم عليَّ غالبًا في الليل، وبعد أن يهدأ البيت ويسكن للنوم. أما الطقس الذي يصاحبني أثناء الكتابة فهو الموسيقى الكلاسيكية وقارورة الماء. لا أعترف بالقهوة مثلاً.
- ما أهم الأدوات التي تستعدين بها عندما تراودك فكرة الرواية؟ وكم من الوقت تستغرقين في كتابة المقدمة وجمع شتات الشخصيات؟
الرواية مهمة لأننا نعرف أشياء كثيرة من خلالها وليس من خلال التاريخ. وبما أنني أكتب في عالم الاكتشاف والمناطق المجهولة بالنسبة لدي فأهم الأدوات التي تساعدني في الكتابة هي المراجع التاريخية والكتب الأدبية التي كتبت في هذا الموضوع. أقرأها بتفحص وأدون كل ما أحتاج إليه في دفاتر خاصة أشبه بالمسودة. يتزامن مع ذلك رسم الشخصيات والأحداث وابتكارها. كل عمل بالمجمل يأخذ مني قرابة العام ما بين الكتابة والمراجعة والتدقيق.
- ما رأيك في (إذا كنت تكتب بشكل رديء فسيصبح لك جمهور؟ وإذا كنت تكتب بشكل جيد فسيصبح لك قراء)؟
انظر لمن سيقرأ لك فقط. فالقيمة في اللب لا في القشور. وفي الأعماق لا في الزبد..
- هل تضعين خطة لما سوف تقومين به من عمل كتابي؟ وكيف يتحكم الكاتب في مسار أفكاره؟
كل نص يحتاج إلى تخطيط وتحكم في الأفكار. عدا الشعر الذي يحتل كل ذرة في جسدك فلا يطلب منك الإذن بأن يتدفق.