«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي:
إن التعطيل الذهني وربطه بالخطابات المتشدِّدة أجّل في فترات زمنية منصرمة الكثير وحدَّ من المزيد من الإبداعات الثقافية، ولا شكّ أنه لا يزال متغولاً صامتاً ويسعى للخلاص من أغلاله في كثير من البلدان التي تأثرت منه.. ولعل ثقافتنا ومشاهدنا الإبداعية في الخليج العربي بأكمله تعرضت لهذا الاعتلال والتعطّل الفكري والشلل الجزئي أو الكلي في مناشط كثيرة طوال تلك العقود الدالفة.. كان من مسبباتها التوجيهات، والتوجّهات التشددية والرقابة الميدانية والصلاحيات اللا رسمية والنابعة من تلقاء الأهواء المؤدلجة والمتصلِّبة التي أخذت على عاتقها الهجوم الدائم وردع كل من تسوِّل له نفسه بالعبث بمقدرات المجتمع وبساتينه يقينًا من أتباع هذه الخطابات التشددية بأنهم حُرَّاس الحقول المعرفية وقاطفي ثمارها والعالمين بحاجاتها، ومثل هذه الخطابات المتحورة وفق أهواء ومنافع ومصالح مناهضيها وجوقتهم العاصفة بكل ما يخالف مرئياتها الطامسة سابقًا، والمطموس بعضها اليوم في مناخات ثقافية عربية كثيرة، هذا الطمس الذي جاء بعدما تكشفت وتعرّت عشوائيات هذه الخطابات القمعية التي حملت على عواتقها تأجيج الممرات الثقافية، والإبداعية التي سعت حثيثة لقراءة الواقع، وترسيم حدوده المتجددة، وتأثيثه بتفكير متصالح مع العالم، وترسية كثير من الأفكار التي تربط المجتمعات ببعضها في ثقافة حيوية مجتمعية واحدة.. عبر قوافي الشعر، وبلاغة النثر، وسماحة المقال...
ما سبق أعلاه نعدّه جزءًا مهمًا من تواقيع مجتمعية عاشت فيما مضى محاولات للمصالحة والتآلف لكن هناك من رأى بقطع كل صلة ترابط المجتمعات ببعضها ولعلّ الذين رأوا ذلك معظمهم أتباع انتماءات وتحزّبات وتوجهات حائرة هي نفسها فيما تريده لنفسها. وبعودتنا إلى الخطابات المتشدِّدة سنجد أنها وطوال العقود الماضية لها تحوراتها وتقلباتها وفق مصالحها وسنجد أنّ معظمها استخدمت الدين في بناء أعمدتها الوهمية والسرابية والتخويفية أمام تقدم وازدهار كثير من الخطابات المتعايشة معه أو المتنافرة منه كالخطاب الإبداعي الثقافي والخطابات الأخرى المتصادمة معه أو المستسلمة أمامه والتي بدورنا سنناقشها في تحقيقات متتالية حتى نفرد لكلٍ خطّه التحليلي القرائي وفق سيرته ومسيرته الزمنية. ولكي نقرأ ما أحدثته الخطابات المتنوعة بجميع تحوراتها، ومراحلها، وأزمنتها، وآثارها وفرقها ومناهجها على الإنسان والمجتمعات رأت «الثقافية» أن تُفسح المساحات وتُجليها لرؤى أكاديميين ومثقفين وكُتَّاب ليقدِّموا بدورهم قراءاتهم وتحليلاتهم للساحات الثقافية والإبداعية بكل ما حدث فيها من مناورات واختلافات في جو استقرائي ومساحات مفتوحة الآفاق.. ولعلنا نفتتح هذه الرؤى بما كتبه الكاتب والأكاديمي باللسانيات الثقافية الدكتور خالد الغامدي الذي كتب للثقافية قائلًا: «هذه إشكالية معقدة لا يمكن تفصيل جوانبها في تحقيق صحفي، وهي فيما أرى تدخل في باب ما سميته في سلسلة مقالات سابقة: «سياسة الأفكار»، خصوصا مقال «تخادُم التطرف والانحلال». وسأعلق مختصِرًا من خلال النقاط التالية:
1 - لا يصح أن نتناول «الثقافة الإبداعية» كأنها مقدسة أو كأن الخطاب الإبداعي مبرأ دائما من الهوى والفساد، لِيُشيطَن حينها كلُّ من يعارض أو يخالف أو ينتقد، بقطع النظر عن صواب رأي المخالف وخطئه، بل من الخير للخطاب الإبداعي - كأيّ خطاب آخر - أن يتعرض للتحديات فإن كان صالحا للتطور والنماء فلن تزيده التحديات إلا قوة، وإن كان مِن التهافت بحيث يصاب بالشلل لأي إعاقة فلْيذهب غيرَ مأسوف عليه، فليس كفئاً لتطوير مجتمعٍ ناهض يبحث عن تجديد ذاته في مرحلة حضارية حرجة.
2 - ما سُمِّيَ «الإعاقة الذهنية» للثقافة الإبداعية ليس مُسبَّبًا فقط عن الخطاب المتشدد، بل قد يكون مُسبَّبًا أيضا عن فوضى اجتماعية متوارَثة في عالَم الأفكار الحية؛ فمثلاً إذا كانت الأفكار التي يتلقنها الطفل رسمياً في البيت والمسجد والمدرسة تحرّم فكرة - على ضوء النصوص الشرعية التي يؤمن بها المجتمع - ثم يجدها ماثلة في المجتمع من خلال نشاط فني أو إبداعي فحينئذ نحن بصدد أخطر نوع من أنواع الإعاقة الذهنية وهو التناقض المنطقي القائم في الثقافة نفسها، ومن ثم يكون الواجب أولًا هو علاج الخلل في بنية الثقافة قبل الالتفات إلى ما نراه معوقاتٍ خارجية قد تكون كذلك وقد تكون ثمرة طبيعية لفوضى داخلية.
3 - إضعاف معوِّق الاعتدال بمعوِّق آخر - كأنْ يُضْرَب التطرف بشيء من الانحلال الذي قد يُظَن أنه نزوات مؤقتة - طريقة تقليدية غير مأمونة العواقب ؛ لأنها تمنح الفكرة المنحرفة فرصة حضارية لتسري في المجتمع سريان الوباء في الأجساد، ثم يُضرب الانحلال بتطرف جديد، وهكذا دواليك في دائرة من التوتر الذي يدوّخ المجتمع ولا ينتج إلا مزيداً من الشلل والفشل. وقد نص البيان السياسي من أعلى سلطة في الدولة على ما يلي: «رسالتنا أنه لا مكان بيننا لتطرف يرى الاعتدال انحلالا، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه، وسنحاسب كل من يتجاوز ذلك» وهذا يتضمن وجود طرفين منحرفين في ميدان الصراع الفكري وأن الواجب مواجهتهما معًا ومحاسبتهما معاً على ضوء رؤية «الاعتدال» النابع من قيم الدولة ومقاصدها العليا المتمثلة في العقيدة الإسلامية السمحة.»
وبحثًا عن تحليل ميداني، سعى لقراءة ما حدث في العقود المنصرمة علينا قراءة ما كتبه الكاتب الأستاذ مجاهد عبدالمتعالي لهذا التحقيق وما خصّه به تحت عنونه بـ «إشكاليات الخطاب الحركي المتشدد على الثقافة الإبداعية» والذي افتتحه بقوله: «لم يكن الخطاب الحركي المتشدد يعمل على جبهة واحدة ضد الآخر، فلم يقتصر الخطاب الحركي على مهاجمة المبدعين في مجالات الثقافة وعلى رأسهم مثلاً (غازي القصيبي) في السعودية، فهذه المسألة مكشوفة ويتم اعتمادها بالأخص من قبل ما سُمي (التيار السروري) الوليد الصغير لحركة الإخوان المسلمين، أما الحركة الأم فقد اتجهت للهيمنة على الخطاب الثقافي الإبداعي بطريقة أيديولوجية من خلال ما سمي (الأدب الإسلامي) والذي استقطب كل (الأذكياء جداً لكن متواضعي الموهبة) وفي هذه المعادلة (الذكاء الحاد وتواضع الموهبة) كان مقتل الحركات الإسلامية، لنجد أن الإبداع الثقافي في (الأدب الإسلامي) قد استقطب كل هؤلاء الأذكياء (المثابرين) لكن متواضعي الموهبة مع محاولة استدماج أسماء أخرى قائمة بذاتها وليست بحاجة لهذه الأيديولوجيا لتستقيم ثقافياً، ويبقى الجانب الآخر الذي تكفلت به حركة الإخوان المسلمين من خلال صنع قالب فكري لأكثر من ثلاثة أجيال لا تستطيع استيعاب أي جمالية من الجماليات ما لم تكن في النطاق الضيق لما سمي (الأدب الإسلامي)، وذلك لصناعة جماهير تتقبل الثقافة على أنها (كتيبات، منشورات، كاسيتات، أناشيد، ملصقات على الجدران والأبواب) بينما هذه الصفات المعلبة تخص عمل حزبي سياسي صرف جاء بغطاء ديني، طبعاً هذه الأسلمة الأيديولوجية حاولت استحلاب حتى قصيدة نزار قباني في الأندلس باعتبارها ضمن مظلتهم (الإسلامية) لافتقارهم كما أوضحت لحالة إبداعية حقيقية لا تحاول ترقيع الضعف في موهبتها بالتذاكي والمثابرة.» ثم أتبعه مُحللًا بشكلٍ منطقيٍ أكثر شمولية قائلًا: «إذاً فالخطاب الحركي المتشدد عمد بوضع خطوطه الحادة لمعنى الثقافة والإبداع من خلال (مانيفستو) شهير اسمه (الحداثة في ميزان الإسلام) ليتحول المؤلف إلى صاحب الإسلام والمتحدث المطلق باسم كل المسلمين، وعلى المتلقي تخيل المصيبة الكبرى عندما يتم تجييش العامة وذائقتهم ضد كل ما هو مختلف عن الخطاب الإخواني، يكفي أن أدباء ومثقفي ثلاثة عقود كانوا شبه مغمورين ومن يبرز أكثر يصبح محارباً أكثر، وقد يغامر بنفسه وصولاً إلى استبطان التكفير أو التصريح به ويمكن الروع لأدبيات الإخوان المسلمين وابنتهم (السرورية) لاستعادة قائمة أسماء تم محاربتها حتى على المستوى العائلي محمد جبر الحربي وزوجته خديجة العمري، وعلي الدميني وفوزية أبوخالد، محمد زايد الألمعي، مروراً بقضية إبراهيم شحبي مع (تهمة العلمانية)، إنها قائمة طويلة تبدأ من هناك مع زمن عبدالكريم الجهيمان... لكن لاقتصارها على نطاق الفترة (الصحوية) سنجعلها تبدأ من بداية نفوذ الإخوان المسلمين في المنابر ومناهج التعليم لنبدأ مع محمد العلي مروراً بالروائي تركي الحمد، ثم محمد الثبيتي والمخيف أن القائمة تطول وستنسى اسماً مهماً كسعيد السريحي، والنقاش لا يدور عل ى الضحايا والتضحيات، بقدر ما يدور على مناهج الإخوان في حراسة الفضاء العمومي بالمعنى (الشمولي) للكلمة، فالفضاء الاجتماعي أصبح يسير وفق أدبياتهم حتى في الزواجات ليتم استثمار حفلة الزواج في محاضراتهم، وتوزيع أشرطتهم، والفضاء الثقافي أصبح مختنقاً بحراسه الفكريين عبر مظلة (الأدب الإسلامي) وحراسه العمليين من فوضوي معارض الكتاب والمسرحيات الثقافية». وقبل أن يختم عبدالمتعالي مقالته طرح سؤاله العريض والمُنتبه لهذا الخطر المتغوّل حتى في صمته:» هل انتهى زمنهم؟ لتعرف الإجابة بشكل واضح أمسك بجهاز جوالك واكتب سؤالاً في أحد قروبات الأقارب والأصدقاء: (ما حكم سماع الأغاني بدون مجاملة أو تجاهل)، لتكتشف أن الإجابة هي الإجابة التي حفظها ثلاثة أجيال عن منشورات الإخوان المسلمين، غير مدركين لأبجديات الفقه الإسلامي باعتبار المسألة بسيطة وخلافية، وأن الخلاف الفقهي بين الألباني ومخالفيه في حكم (زواج المسيار) أشد خطراً على الدين والأعراض من الخلاف على سماع أغنية من الأغاني».
وتتابع الثقافية هذا الاستقراء بحديث أستاذ النقد الحديث بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور: عادل خميس الزهراني، الذي افتتح حديثه المعنون بـ«منظومة القيم والعلاقة المأزومة بين الأيديولوجيا والإبداع» برؤية العروي، حيث قال: «لماذا يذكرني سؤال هذا التحقيق بـ «شيخ» عبدالله العروي، وطريقة تصوره للحياة والواقع من حوله؟
هذا الشيخ -الذي يمثّل نمط شخصية من ثلاث شخصيات عرضها في كتابه (الأيديولوجيا العربية المعاصرة)- لا يرى سوى «التناقض بين الشرق والغرب، في إطاره التقليدي، أي كنزاع بين النصرانية والإسلام». فينخرط في سجال ممتد عبر التاريخ، يأخذ صورة مواجهة حادة وحاسمة. لا يستطيع الشيخ أن يتعامل مع العقل والحرية، وهما أساسان في تقدم الغرب، وذلك لأن الغرب هو العدو المطلق، الذي لا يستطيع قبول أي شيء صادر عنه. لعل هذا الموقف -بما فيه من اختزال لا أنكره- يمثّل موقف الخطاب الإسلاموي في التاريخ الحديث تجاه الإبداع، بوصفه قوة من قوى التطور والتنمية.
من هنا لا نلمس إيماناً حقيقياً بالقيم الإنسانية الحديثة لدى أصحاب هذا الخطاب، إيماناً ينطلق من الواقع المعيش، وذلك ببساطة لأنها تبدو نتاجاً غربياً، لا يستطيع النظر إليه من موقفه المتمركز في الماضي إلا من زاوية العداء والمواجهة.
المشكلة هنا أن الحرية شرط أساسي في عملية الإبداع، ومتى غابت الحرية فإن فرصة الإبداع تصبح أضيق بكثير. تتنفس الفنون والآداب أوكسجين الحرية، وبه تحلّق في الآفاق المفتوحة، وتنكمش متى تضاءلت مساحة الحرية المتاحة. والخطابات الأحادية المؤدلجة المؤمنة بالسلطة المطلقة لا تسمح بالحرية التي يتطلبها تطور الإبداع ونضجه. أعتقد أن الخطاب (المتشدد) يشكل نموذجاً مثالياً للخطاب الذي يقمع الحرية، ويتوجس منها.
لقد كان ضيق الأفق سمةً ظاهرة وسمت خطاب الأيدلوجيا، سمةً تصورت الوجود على شكل معركة سطحية مباشرة، وبالتالي بنت إستراتيجيتها وفقاً لمنطق المواجهة فقط؛ (أنا في معركة وجودية مع العدو)، هذا هو الشعار العام للخطاب المتشدد، وعليه (أنا الصواب الوحيد وغيري هو الخطأ... إذن فرأيي هو الوحيد الجدير، وموقفي هو الموقف المستقيم، وغيره أعوج، وكل من لا يقف معي، ويواليني فهو يقف مع عدوي، وهكذا تتحول الحياة بأسرها إلى فريقين: هم ونحن). في بيئة مثل هذه لا مكان لإبداع، ولا مجال لحرية، ولا مساحة لنقد أو مساءلة أو مناقشة. الإبداع يخلق في النور، ومن سماته -مهما كان شكله ونوعه- أنه يرفض الحدود، ولا يستسلم للقيود، بل إن واحدة من الأبعاد الجدلية في طبيعة الإبداع أنه يضع التقاليد ثم يكسرها، وهذا هو سر بريقه وديمومة أثره. وحين يواجه خطاباً أحادياً، منغلقاً على ذاته، فإن العلاقة تصبح متوترة غير مثمرة في الغالب؛ لطالما نظر الخطاب الإسلاموي إلى الفنون والآداب عموماً نظرة توجسٍ ورفض. أراد لها فقط أن تكون سلاحاً في المعركة، وأن تلتزم بسلطته، وشروطه، وهو بطبيعته متفلّت، لا يؤدي وظيفته الحقيقية إلا في الهواء الطلق. واحدة من أهم وظائف الإبداع هي مساءلة الواقع ونقده ومحاولة كشف الأخطاء وفتح نقاش مستمر حول كل ما هو مسلّم به، وهذا أمر غير متاح، ولا يستطيع الأيديولوجيا السماح به. أتذكر الآن مقولات محمد قطب عن (التطور)، باعتبارها طريقة لمهاجمة اللغة والدين، وكيفَ أن مجالي الأدب والفكر يُستخدمان لصرف المسلمين عن الإسلام، وذلك في كتابه «واقعنا المعاصر». (هذا الكتاب كان يُدرّس في جامعاتنا كما هو معروف).
لا يمكن أن نتناسى أن الإبداع يحتاج لمساحة من التسامح، بل يقوم عليه؛ التسامح مع الأفكار، ومع التجارب، ومع الاختلاف ... وهذه مسألة مهمة أيضاً، وذلك لأن الابتكار والتجديد يكونان في الأساس مبينين على القبول والتفهم والتعقل والنظر للأشياء من زوايا مختلفة. لا أعتقد أن خطاب التشنج والكراهية الذي ك ان سائداً يتسق مع هذه الطبيعة المرنة التي يتطلبها الإبداع. الوجه الآخر لحاجة الإبداع إلى التسامح، أنه يسهم في تعزيز قيمة التسامح -والقيم الإنسانية الأخرى- بعد ذلك لدى المبدعين والمجتمعات من حولهم. لأنه تسامح منتج ومثمر، (وثمرته هي هذا الإبداع في ذاته). وبهذا يكون نموذجاً عملياً لقيمة التعايش المتحضر والسلمي مع الآخر. ولست متأكداً إن كان الخطاب القائم على العدائية، والمواجهة، والموت يمكن أن يدرك قيمة مثل قيمة التعايش.» وراح الزهراني يرصد المشكلات المنوطة بهذا الخطاب وما أحدثته منظومته عبر التاريخ الحديث حيث قال: «واحدة من أهم مشاكل الإسلاموية -في رأي- أنها تأتي من خارج منظومة القيم الإنسانية العليا، وفي عملية تكيفها مع هذه المنظومة عبر التاريخ الحديث حاولت أن تسقط هذه القيم على خطابها إسقاطاً عمودياً، أي أنها تعلن تبنيها لهذه القيم، لكن هذا يناقض -في العمق- خطابها، فهي -أي الأيديولوجيا- لا تؤمن حقيقة بالحرية، ولا العدالة، أو المساواة، أو التعددية وحق الاختلاف.» واختتم الزهراني حديثه بنوع من الطمأنة لمسيرة الثقافة والإبداع قائلًا:» لقد وصل الإنسان في العصر الحديث إلى ما يشبه الوعي الإنساني المشترك، وتمثل منظومة القيم هذه عمادَه الرئيس، لكن نظرة الخطاب الإسلاموي ماضوية جامدة لا تستطيع إدراك التطور الذي يطرأ على كل شيء بناء على سيرورة التاريخ. وإذا عرفنا أن هذه المنظومة هي الغذاء الروحي الأهم للإبداع بشتى أشكاله، وضعنا أيدينا على جوهر الأزمة؛ أزمة العلاقة بين الأيديولوجيا الإسلاموية والإبداع الأدبي والفني.»
وأما الكاتبة والروائية ليلى الأحيدب التي تعدُّ شاهدًا على هذه الحِقبة الثقافية الإبداعية وقد بدت شهادتها من خلال إصداراتها بتواقيت تأزمية مشهدية ومن خلال رؤيتها التي جاءت كفحصٍ لهذا الخطاب ومؤثراته، حيث قالت: «بعيدًا عن ربط الحديث بالمصطلحات الواردة في هذه المحاور، سأتحدث عما عبرته في فترة الثمانينات والتي بدأ فيها التيار الصحوي ممارسة سطوته،
لا شك أن الصحوة تغلغلت داخلنا جميعاً، بعضنا قاومها بالكتابة الضد وبعضنا قاومها بالانغماس في نسيجها، كنا تقاومها بالتحايل عليها، نحرق الأشرطة الغنائية ثم نشتريها، نكتب عن الحب ثم نتحايل بالرمز والمجاز والاستعارة كي ننجو من تأويلهم بالالتفاف حول المعنى وصياغة عتمة لا يفهمها سوانا، كانوا مسيطرين على المنابر وعلى المدارس وحتى في التجمعات العائلية كان لهم حضور وسلطان.
لكن في المشهد الأدبي كانت الصورة مختلفة، وسأتحدث هنا عن فترة الثمانينات، التي شهدت جدلاً وصراعاً بين تيارين التيار المحافظ أو التقليدي والتيار الحداثي
أعتقد أن الصدام دائما ينتج أدباً مميزاً، كان وجود ملحق «الندوة» آنذاك ضرورياً ليكون ملحق «اليوم « و «الجزيرة» و «الرياض» بكل هذا البهاء! الصوت الواحد يخلق أدباً خافتاً، كان الأدب وقتها متوهجاً لأن ثمة تحدياً، وكانت النصوص تزداد جمالاً وحداثة مع كل انتقاد أو هجوم من الطرف التقليدي، هذا الاستفزاز الثقافي هو الذي يحرك الركود، أعتقد أن تلك المناوشات خلقت تحدياً لجيل الثمانينات، وفرزت الكثير من الأسماء التي كان وجودها هشاً وضعيفاً، وقتها كنا نكتب شيئا مختلفا، وهذا المختلف يحارب وبضراوة من أطراف أخرى، لغة تحدي السائد آنذاك كانت محفزا لكتابة نصوص مختلفة، كتابات مشري عن التجريب في النصوص، نصوص جار الله المنفلتة من قيد القصة التقليدي، نصوص باخشوين المضفرة برائحة كافكا، وجود مبدعين عرب يشاركوننا الكتابة والنقد، تمازج التشكيل بالنص، وتقارب النص مع اللوحة، هذه الأجواء المشبوبة بحمى الإبداع والتوق للتجريب وتكسير الأطر، كانت وقودا جيدا للكتابة خاصة أن كفتي الصراع آنذاك كانتا على مستوى واحد، صحيح أن كفة التيار التقليدي كان يرجحها تعاضد المجتمع بكافة منابره معها، لكن على مستوى الفعل الثقافي كانت الملاحق الثقافية تحتفظ بحقها في نشر النصوص التجريبية والمختلفة لمبدعين عرب ومحليين، ملحق اليوم وملحق اليمامة وملحق الرياض والجزيرة وعكاظ، بينما كان ملحق جريدة الندوة على الطرف النقيض تعمل على تحجيم هذه السياقات وتقديم النصوص التقليدية ونقد التجربة الحداثية بكل ما تستطيع من أدوات، هذه الأجواء، وإن رأى البعض أنها تحد من فضاء الحرية، إلا أنها جعلت الكتابة نوعا من التحدي، كان فضاء الرمز وجنة المجاز يتنامى ويبتكر أدواته وأسطورته من الثقافات كافة، هذا النزوع للمجاز والرمز أنضج النصوص، جعل اللغة مادة تتشكل بكثير من العمق، صحيح أن هناك نصوصا ضلت سماء الرمز فخرجت ملغزة وفقيرة، لكنها في الغالب كانت تدل على فقر موهبة الكاتب وفضح أدواته.» وقد عادت الأحيدب بحديثها لقراءة حِقبة الثمانينات وما أحدثه هذا الخطاب الصحوي في المشهد الثقافي والإبداعي مُتممةً حديثها وخاتمة رؤيتها قائلةً: «وهذا التوهج بالطبع حس م في النهاية لصالح التيار التقليدي، وانشغل كتاب الثمانيانات بحيواتهم، بعضهم اشتغل على نصوصه والبعض الآخر دخل في سبات عميق،لكن المهم هنا من استفاق وأكمل مشروعة الكتابي لا من ألف الركود وتصالح مع النسيج الميطر.
وأنا هنا أتحدث عن المبدعين الذين خرجوا من تلك الحقبة ناضجين، بعضهم مرت به فترة الثمانينات كزمن وليس كحقبة مؤثرة، أسماء كثيرة كانت موجودة آنذاك –ولا تزال موجودة - لكنها لم تنجز نصا لافتا ولم تترك أثرا.
لاشك أن الصحوة عطلت كثير من نوافذ الإبداع لكنها لم تستطع أبداً أن تقص أجنحة المبدعين لازلنا نكتب وننشر ونشهد اندحارها بكثير من الفرح.»
وأمام كل ما سبق من قراءات مدققة في هذا الخطاب ومآلاته تستكمل الثقافية بحثها في كوامن أخرى وبواعث استدعتها لطرح هذا النقاش، ولعلّ ما كتبه أستاذ الأدب والنقد سلطان العيسي تحت عنوان: « أخونة الأدب وخيانة الأدب» طارحًا فيه ما يستدعينا لتأمله وجعله تحت منظار المرئيات التعمقية عن هذا الخطاب المتحوّر حقًا، حيث بدأ حديثه بتحليل الخطاب تحليلًا زمنيًا مبتدئًا بقوله: «من أهم الأيديولوجيات التي شاعت اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا في العصر الحديث وأفرزت نتاجًا أدبيًا يُعبر عنها هي حزب الإخوان المسلمين، ولقد أنتج أدباء الإخوان نصوصهم الأدبية تحت غطاء ما يُسمى «بـالأدب الإسلامي» كحاضن لشتى الأنواع الأدبية التي كُتبت وفق مجموعة ثابتة من الأهداف والرسائل، نبّه إليها أولًا أبي الحسن الندوي ثم كتب عنها باستفاضة سيد قطب تحت عنوان «منهج الأدب» في عام 1952م، ثم بلور المشروع محمد قطب في كتاب «منهج الفن الإسلامي» عام 1961م.
وجاء الخطاب الحركي الإخواني داخل الأدب في اتجاهين متمايزين لكنهما يحملان الغاية ذاتها؛ الأول نشر مبادئ وقيم ورؤية العالم وفق رؤية الحزب، والاتجاه الآخر حاول نقض وتشويه كل الاتجاهات الأدبية الأخرى.
فالأدب الإخواني كما يرى الكاتب سامح فايز هو «صبغة الأدب بأهداف الإسلام السياسي وتطويعه لخدمتها»، وهو ما ذكره نجيب محفوظ عندما قابل سيد قطب الذي سبق أن نظّر للأدب الإسلامي حيث كان قطب «يرى أن المجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقا من فكرة الحاكمية»، وهذا ما حاول أدب الإخوان الترويج له بصور متعددة انطلاقًا من أن وظيفة الأدب هي وظيفة دينية.
والحقيقة أن دور الأدب ليس الدعوة إلى مكارم الأخلاق فقط بل هو أوسع من ذلك، حيث هو تصوير للحياة بأكملها بما فيها من خير وشر، وهذا ما أكده الدكتور أحمد الخميسي الذي رأى كذلك أن من أبرز مخاطر أدب الإخوان هو فهمهم الدين من منظور ضيق جدا، قادهم فيما بعد إلى تصوّر الأدب من منظور أشد ضيقا.
نتيجة لذلك لم يظهر نتاج أدبي إخواني جيد يرقى إلى المستوى الفني المأمول، وهذا ما أكده جابر عصفور الذي أرجع ذلك إلى «طبيعة التربية الإخوانية المعتمدة على السمع والطاعة التي لا يمكن أن تصنع أديباً» فالأدب كما يرى عصفور «قائم على التمرُّد على الواقع ورفضه وإعمال الخيال للبحث عن الأكمل والأفضل» لذلك رأى أنه من غير الممكن لأي منتج أدبي لهذه الجماعة أن يحقق نجاحاً.
وهذا ما أكده جمال بخيت الذي رأى أن تنظيم الإخوان قدم عدد لا بأس به من الدواوين الشعرية والنتاج السردي إلا أنه فشل في تقديم نتاج أدبي مميز بسبب اعتماده في فكره على تنميط البشر وإغلاق عقولهم!
بل يمكن قراءة الخطاب الثقافي للإخوان وانعكاسه على الإبداع الأدبي من خلال شعار الجماعة الرسمي «واعدوا» الذي جاء فوقه سيفان متقاطعان، فكان اللفظ وأعدوا دعوة صريحة لاتخاذ الأدب وسيلة لغاية لا علاقة للأدب بها. فكان النص الأدبي مظهرًا من مظاهر الرغبة في السيطرة على عقول البشر لتحقيق أهداف الجماعة السياسية، وكان الأدب تجربة جمعية مما أوقعه في فخ الأدلجة والنص ذو الأفكار الجاهزة مسبقًا، مما أوقعه لا محالة في المُباشرة والخطابية.
ومن أبرز الآثار السيئة التي تركها الفكر المتشدد على الأدب هو الدعوة إلى الجمود الاجتماعي، وعدم تجديد الثقافة الدينية، والدعوة إلى عداء الآخر، وتشويه صورة المختلف، وقمع الحركات الأدبية الجديدة مهما كان اتجاهها أو ميولها، واعتبار أن أي تجديد في الأدب على مستوى الشكل أو المضمون هو نوع من التغريب المحرم شرعًا.» ولم يتوقف العيسي عند هذه الجزئية التي أكدت بسعي هذا الخطاب لتجميد كل شيء، وتعطيب كل ما ينافي رؤاه وتوجهاته، متابعًا حديثه للثقافية: «ولعل من الآثار السيئة التي تركها أدب الإخوان المسلمين تضمين بعض نصوصهم المناهج المدرسية، حيث ضلت تلك النصوص إشكال كبير وثقب فكري يشوّه الشخصية الوطنية حتى تم حذفها من المناهج الدراسية مؤخرًا، فكانت تلك النصوص الإبداعية في مجملها نقدًا ضمنيًا لكل الأفكار التي سعت إلى التعبير عن الفرد، والواقع، والآخر، والوطن، والحرية، والحداثة.
ويكمن خطر أدب الإخوان المسلمين في جوهره أنه يصنع هوي ة انفصاليه لدى المتلقي لا تؤمن بفكرة الوطن، وتسعى إلى السيطرة على العالم تحقيقًا لفكرة «الحاكمية»، مما يعد فيروسًا أدبيًا يحاول هدم المجتمع القائم، وإنشاء مجتمع جديد له نظامه القيمي الخاص به قائم على الشعور بالانتماء إلى الجماعة فقط لا غير.
ختامًا يمكن القول إن الأدب الإخواني -إن صح التعبير- لم يكن تعبيرًا صادقًا لا عن الفرد أو المجتمع، بل كان وسيلة ناعمة لتحقيق أهداف سياسية مكتوبة سابقًا، ومعول هدم للقيم الإنسانية السامية مما جعله عبئًا على الساحة الإبداعية الأدبية، ومثار ريبة وشك لدى المتلقي الواعي.»
ويمكننا اختتام هذا التحقيق الاستقرائي لحيثيات الخطابات المتشددة والمتحورة وفق ما يراه ضيوف الثقافية بما ذهب إليه الباحث والمترجم الأستاذ محمد بن علي الزهراني والذي افتتح مشاركته بهذا التحقيق بحديثه حول مقدرة أصحاب هذا الخطاب على التلاعب وأسطرة أحاديثهم قائلًا: «إن الإرهاب الذي يتجسّد في استخدام السلاح والرصاص للوصول إلى فاتنات الجنّة وحورياتها، ليس إلا نتيجة لأفكارٍ أطلقت باستعمالٍ لذخائر الكلمة أو شُكّلَت بسحرِ إغراء العبارة من متشددين بثّوا سمومهم عبر منابر الفكر، والثقافة، والإبداع، والفنون كافّة. «فأبدعوا» في التلاعب بنبرات الخطاب وأتقنوا فن لغة الجسد، و»ابتدعوا» البطولات الملحمية الأسطورية «الجميلة» في «سرد» أدبي عربي «إسلامي» نسجوه بطريقتهم الخاصّة، «وعزفوا» على أوتار عاطفة الجماهير «أجمل» الألحان وأعذبها، «ونشروا» ثقافة التشدد والقمع الفكري بالتحريم لكل مخالف «لشريعتهم»، بينما أباحوا كل تطرّف فكريٍ وعقدي يصبّ في مصلحتهم ومصلحة تنظيمهم، ثم ماذا؟ ثم «رقصوا» … احتفالاً بجثث ضحايا المُغررِ بهم وتبرأوا من «تضحياتهم» حين وجّهت أصابع الاتهام لهم.
عانت مجمل العقول العربية من مآسي الكبت الفكري الذي مارسته قيادات حركة «الإخوان المسلمون» وقطيعهم من المتأثرين والمتنفّعين والمتنطعين والمتعاطفين البسطاء وحتى من الذين كانوا يمارسون «التقية الفكرية» ليسلموا من شرّهم وضررهم الذي رفعه الله أخيراً عن المسلمين بزوال طموحاتهم وتعريتهم أمام المجتمعات. لقد جعل أتباع الخطاب المتشدد من الميكروفونات والقنوات الفضائية التي حرّموها، وسيلة لجعل المجتمع يؤمن بأن الرواية كذب تجعل كاتبها يتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا. وعلموا طلاب المدارس أن الشعراء يتبعهم الغاوون واستدلوا في خطابهم هذا بـ «قصائد إسلامية» حماسية وفكاهية، وهددوا سامع الموسيقى بأن سيصب في أذنه الرصاص يوم القيامة ولك القياس ماذا سيحدث لعازفها؟ وأما الفن التشكيلي فإنّه تعدٍ على خلق الله لأنه فيه تجسيدًا لذوات الأرواح، ولم تقتصر تلك الخطابات المتشددة على قمع الفكر والثقافة والفنون، بل تعدّت إلى السيطرة على العلوم الأخرى وأدلجتها، فلا يوجد أمراض نفسية ولا طب نفسي، بل سحر ومس من الشيطان يتطلب وصفات زيتٍ وماء وعسل، وتعلم اللغات لغير أمن مكر الأقوام الأخرى سيحاسب عليه المسلم...»
وأكمل الزهراني رصده لآثار الخطابات المتشددة بقوله: «كل هذه التظاهرات الفكرية التي وظفّها أتباع المنهج المتشدد المؤدلجين بالمملكة والخليج تسببت في وأد الاختلاف الفكري والتنوع الثقافي في مهده، وغُيّبت العقول فيها باسم ديننا الوسطي البريء منهم ومن تشددهم وتنطعهم، فاحتسب الناس في تغيير المنكر بألسنتهم في بادئ الأمر واستشرفوا على المجتمع دون مسوّغ رسمي، ولا مستند قانوني، في فرض وعي مجتمعي موحّد مبني على عصور الفتوحات الإسلامية وخلافة منشودة، لن تتحقق إلا بعد تحقيق وفرض هذه التفاصيل «الصغيرة» في المجتمع. وامتدت الأيادي بعد الألسن، فلا مكان لتغيير المنكر باللسان والقلب الآن، ولاحقوا كتب الفلسفة والفلك والأديان، وشوهّوا جمال الدين الإسلامي وسماحته، ودعوته للتفكّر، والتعلم، والتأمل، والإبداع.» وفي ختام حديثه قسّم الزهراني أتباع هذا الخطاب وفق وظائفهم الاعتبارية وأساليب الاستنفاع التي نتجت عن إصرارهم على مواصلة مجهوداتهم الخطابية التأثيرية قائلًا: «لقد عمل «شيوخ الخطابات المتشددة» كالإخوان مثلًا في جماعات سرية، كان يُلمّع قادتها الذين سرقوا الكتب والملكيات الفكرية ونشروها بأسمائهم، وكانت تسمّيهم القنوات الفضائية بـ «الشيخ» و «العلّامة» لم يكن هدف هذه الجماعة الإرهابية المتطرفة دينياً علاقة بالدين على الإطلاق، ولم يكن الدين لديهم إلا وسيلة لإحباط الشعوب، وأدلجة عقولها، وجعلها راضخة طائعة متطوعة لخدمة «دينهم» الذي كانوا يسعون من خلاله للوصول إلى السُّلطة عندما تحين ساعة الصفر. هذا هو الهدف الكبير، ناهيك عن الأهداف الهامشية التي كانت تُحصد في الطريق إلى السُلطة، مثل الاستنفاع المادي من بيع الكتب الثقافية «الإسلامية» والأشرطة «البسكوتية» التي تحكي بطولات المجاهدين، ومن تلك الأخرى التي جعلت من المنشد «فنانا» واستُبدل فيها ألحان العود والقيثار بنبرات الصوت والتأثيرات الصوتية على طريقة الكورال المسيحية في الكنائس، فازدهرت صناعة التسجيلات «الإسلامية» ونافست محلات التسجيلات التي كانت تبيع «الممنوع على المجتمع» وتثير شهوات الشباب والفتيات، ونمى سوق العود والبخور. ولم يكن هذا المشهد التراجيدي الحزين الذي كان يعيشه المجتمع إلا «مشهدا» من حلقة من مسلسل درامي طويل للتشدد.
لقد تسبب الخطاب المتشدد على مدى عقود في تطرف بعض أفراد المجتمع، إما بسبب اليأس والإحباط من المقاومة الفكرية فلم يعودوا يستطيعون المداهنة وسلموا عقولهم، وإما بسبب مقاومة ضارية لهذا الفكر الهدام، نتج عنها جبهة أخرى تميل لنشر الانحلال والإلحاد والتطاول على الله ورسوله ليس اعتقاداً، بل كيداً في هؤلاء وردة فعل على أفعالهم.
إن السيطرة على المجتمع باسم الدين لأغراض السلطة ليس جديداً على الحضارات والإنسان، وكم عانت فرنسا خلال 1400 سنة من سيطرة الكنسية على حياة المجتمع، وكم كفر الأوروبيون من علماء ومثقفين وفنانين عبر قرون من الزمان، وكم قتلوا وشردوا منهم، ومن سلم من شرّهم قادوه للجنون والعزلة. أما نحن في المملكة، بحمد الله، لم نحتاج لكل هذه القرون والعصور، فقد منّ الله سبحانه وتعالى علينا بنعم كثيرة أرى أعظمها بأن وهب المُلك لهذه الأسرة المالكة الحكيمة الرشيدة الحازمة التي واجهت هذا المدّ الفكري المتطرف، ووعدت «بتدميره فوراً» حتى لا تبقى عقول المبدعين والمفكرين والمثقفين معطّلة، ولا تصبح أنامل الرسّامين والموسيقيين مغلولة. إننا اليوم نعيش في مهد حضارة سعودية عربية جديدة، منفتحة على الفكر، وحاضنة للثقافة والإبداع، وداعمة للفن والأدب، ومحفّزة للنشر والابتكار والاختراع، حضارة عنوانها السلام والإنسان والتسامح والانفتاح على الآخر وحب كل جميل، تستند على الدين الحقيقي المعتدل، وعلى التلاقح الفكري والتنوع الثقافي، وعلى تقبّل جميع أطياف المجتمع بأفكارهم وخلفياتهم الثقافية والمذهبية والفكرية، وإبداعاتهم وإنتاجاتهم الفنية والأدبية، وتشجعهم عليها.»
ولا يمكننا في ختام استقرائنا وتحقيقنا هذا أن نقول بأنّ كل الآراء التي جاءت وفق مرئيات المشاركين فيه تامةً مكتملةً وإنما هي جزئيات تعاضدت لتفتح علينا آفاق أخرى ومباحث عميقة لا تتسع لها إلا البحوث الاجتماعية التي تستطيع تحليل الآثار الاجتماعية للخطابات المتشددة بكافة مناهجها وتعدداتها ميدانيًا باستطلاعات، وقياس لآثار ونواتج مؤثراته على حِقب وأجيال انصرمت بعدما صارعت في ظل تشددها، وأجيال انسحبت من مواجهتها، وأخرى قررت الاكتفاء بالصمت تجاهها. وبدورها الثقافية تُرحب بكل ما يصلها من تعقيبات، أو مرئيات حيال هذا الجزء، وخلافه متقدمة بالشكر للأكاديميين، والنُقاد، والباحثين والكُتّاب على ما أثروا به هذه المادة. ومشيرة إلى أنّه سيلي مناقشة إشكاليات الخطاب المتشدد وتحوراته على الثقافة الإبداعية خطابًا آخرًا وهو: «الخطاب الليبرالي ومعضلاته الاجتماعية والثقافية»
للتعقيب عبر البريد الإلكتروني التالي:
j.madkhali2009@gmail.com