خالد محمد الدوس
اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء هذا العلم الأصيل واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع وظواهره واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه, وقد ساهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب, وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية, وكان للعلماء الفرنسيين دور فاعل في دراسة تركيبة المجتمع البشري, ولاسيما في القرن التاسع عشر.
ويعد مؤسس علم الاجتماع بمفهومه الحديث الفرنسي (اوجست كونت) من أبرز علماء عصره لما تركه من ثروة فلسفية وإنتاج خصب في علم الاجتماع, من تجديد مناهج البحث وأيضًا فتح افاق جديدة للدراسة العلمية لهذا العلم الثري.
*ولد هذا العالم الشهير عام 1798م في فرنسا ودخل مدرسة الفنون التطبيقية عام 1814 وأثبت نفسه في علم الرياضيات وتميز في هذا العلم لكنه طُرد بعد عامين من الدراسة لمشاركته في تمرد طلابي..!! وتمكن من إجراء أبحاث هائلة في الرياضيات والعلوم والاقتصاد والتاريخ والفلسفة, حيث تعلم الفلسفة الوضعية بعد أن تتلمذ على يد الفلاسفة الاجتماعيين (كلود هنري وسانت سيمون) رغم إنه لم يتلقى تعليمًا جامعيًا..!! لكن كان تعليمه في ظل تقاليد فلسفة عصر التنوير, فبعد قيام الثورة الفرنسية حاول (أوجست كونت) استخدام مبادئ فلسفة عصر التنوير لحل مشاكل ومثالب هذه الثورة في زمنه, ونتج منه نظرية التطور الاجتماعي التي أبرزت الأهمية الرئيسية للعقل الإنساني والقيم الاجتماعية السائدة.
*اشتهر أوجست كونت بأنه هو الذي أعطى علم الاجتماع اسمه وبالتالي يّعد مؤسس علم الاجتماع في العصر الحديث، حيث أعطى علم الاجتماع الاسم الذي ظل قائماً بنظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية حتى وقتنا الحاضر.
كما ترك هذا العالم العبقري إسهامات بارزة وأعمال لافته في علم الاجتماع وهي:
أ- تقسيمه لعلم الاجتماع إلى قسمين أساسيين هما:
1- الاستاتيكا الاجتماعية والذي يهتم بدراسة النظم الاجتماعية والبناء الاجتماعي من ناحية التكوين والدور في المجتمع, وقد حدد كونت ثلاثة عوامل تربط المجتمع كوحدة استاتيكية, هي اللغة والدين وتقسيم العمل.
2- الديناميكا الاجتماعية وهو الذي يهتم بدراسة تطور المجتمع وتغيره وعدم ثباته, أي أن المجتمع في حالة حركية ديناميكية وليس ساكنًا.
كما صاغ قانون الأطوار أو المراحل الثلاث، حيث كان يعتقد أن كل مجتمع لابد أن يمر بها، ويرى أن العقل البشري قد تطور في كل مرحلة بشكل مختلف. والمراحل الثلاث هي:
* المرحلة اللاهوتية: وفيها تكون الأفكار البشرية مركزة في الأمور الدينية فقط، وتكون الأسرة هي الوحدة الأساسية في المجتمع.
* المرحلة الميتافيزيقية: وفيها تسود الأفكار الفلسفية، وتظهر الدولة كوحدة اجتماعية، وهي مرحلة الاتكالية حيث يربط الإنسان أفكاره بالقوى الغيبية فقط وتفسير كل ما يحدث له بأنه فوق إرادته وتوجد هذه بصورة واضحة في المجتمعات البدائية والبدوية.
* المرحلة العلمية (الوضعية): في هذه المرحلة يسود الفكر والتفسير العلمي كما يستخدم الإنسان في هذه المرحلة القوانين والمناهج العلمية المبنية على الحقائق المجردة الموضوعية دون تدخل العوامل الشخصية.
ومن أهم أعماله كتاب (الفلسفة الوضعية) الذي ظهر لأول مرة في ستة أجزاء (1842م).
كما اقترح أن يستخدم علم الاجتماع الطرق الثلاثة المستخدمة في مناهج العلوم التطبيقية. وهي الملاحظة والتجريب والمقارنة، مع كون علم الاجتماع يستطيع أن يستخدم بالإضافة إلى ذلك المنهج التاريخي.
في سياق أفق هذا العالم الواسع ..أكد أن العلوم تتطور، كما تتطور المجتمعات ويمر كل علم بالمراحل نفسها التي تمر بها العلوم الأخرى، إلا أن سرعة تطور العلوم تختلف من علم إلى آخر, فالعلوم البسيطة أسرع تطوراً من العلوم الأكثر تعقيداً. وقد تمكن من ترتيب العلوم تصاعدياً حسب درجة تعقيدها.حيث وضع علم الفلك كأبسط العلوم يليه علم الطبيعة ثم الكيمياء ثم الأحياء وأخيراً علم الاجتماع. وهذا يعني أن علم الاجتماع من وجهة نظر (أوجست كونت) هو أكثر العلوم تعقيداً وتداخلاً..!!
ولذلك فإن العالم (أوجست كونت) الذي عاش الفوضى والاضطراب العام المصاحب للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وأراد أن يصلح المجتمع الفرنسي بوضع فلسفة جديدة للقضاء على هذه الفوضى قد بيّن أن الفوضى هذه ناتجة من الاضطراب العقلي, بسبب الفوضى في التفكير في معالجة الظواهر الاجتماعية، وأكد أن المجتمع كي يستقر ويتقدم بحاجة إلى اتفاق عقلي وتوّصل إلى أن المجتمع لا صلاح له إلا بتوحيد التفكير في معالجة الظواهر الاجتماعية بالمنهج نفسه الذي تعالج به الظواهر الطبيعية كي يمكن التوصل إلى قوانين تخضع لها الظواهر الاجتماعية.
وبالنظر إلى هذا العمق المعرفي والاجتماعي للعالم الفرنسي (أوجست كونت) فقد ظلت أفكاره حاضرة في الفكر الاجتماعي المعاصر, وحتى الإشكاليات المعرفية التي أثارها بخصوص المنهج والنظرية لا تزال تشغل كثيرًا من الباحثين الاجتماعيين والمهتمين بهذا الحقل السوسيولوجي الخصيب.
* توفي مؤسس علم الاجتماع الحديث أوجست كونت في باريس عام 1857 بسبب مرض السرطان في المعدة بعد أن كرس حياته بلا كلل لترويج أفكاره وتنظييمها وتطبيقها في سبيل تحسين المجتمع في حقبة كانت الاجواء في فرنسا عقب الثورة الفرنسية مهيأة تمامًا لميلاد وبلورة أفكاره وبالتالي ظهور علم يعالج الفوضى أسماه أولاً بالفيزياء الاجتماعية ثم علم الاجتماع.. رغم أنه لم يتلقَ تعليمًا جامعيًا وعاش في أسرة ميسورة الحال. حتى عندما ساءت أحواله المادية تبرع له بعض تلاميذه الأغنياء بالمال لكي يكمل بحوثه ويستطيع أن يعيش حياة لائقة بشخص عبقري مثله. والواقع التاريخي يؤكد أن جامعة السوربون رفضته على الرغم من عبقريته ونبوغه في مجال العلم، وهذا من أغرب الأشياء، إذ كيف يمكن للجامعة الفرنسية المخضرمة أن ترفض أكبر فيلسوف وعبقري في عصره..!!؟ مهما يكون من أمر فإن أوجست كونت كان كلل العباقرة.. يبحث منذ صغره على إنجاز مشروع كبير لخدمة العلم والإنسانية والمجتمعات.. وعلى الرغم من كل العراقيل والصعوبات فإنه استطاع تنفيذ مشروعه الكبير الذي أسماه (علم الاجتماع) بعد اكتمال نموه العلمي وأُسسه النظرية.. ليقدم لنا هذا العالم الفذ محاضرة ملهمة بعنوان (إذا توفرت الإرادة الصلبة تحقق الهدف.. وترجم الحلم إلى واقع).!