د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
قال ابن عاشور عن (البتة) «وقد اعتاد الممارسون من طلبة العلم بتونس الاقتصار على قطع الهمزة، وهو خطأ؛ إذ لم يذكر ذلك أحد من أئمة اللغة، ولا يقتضيه قياس؛ وفي طباع الناس إلف الغريب»(1).
وابن عاشور لم يطلع على ما ذكره الإسفراييني (684هـ) باقتضاب في قوله «وقطعُ الهمزةِ بمعزلٍ عن القياسِ لكنّه مَسْمُوعٌ»(2)، وقال نقره كار (776هـ) «فاللام في (ألبتة) في الأصل للعهد، أي لا أفعله القطعة المعلومة التي لا تردد فيها، (وقطع الهمزة) من «ألبتة» (بمعزل من القياس)، لأن الهمزة فيها همزة وصل (لكنه) أي لكن قطع الهمزة (مسموع) لأنه إنما يقال: لا أفعله ألبتة بفتح الهمزة»(3). ونلاحظ أن المتن والشرح لا يجعلان القطع هو الأصل، ولكنهما يذكران أن القطع مسموع، ولم يوردا شاهدًا على ذلك. ولا نجد أحدًا ذكر ذلك قبل الإسفراييني. ومع ذلك نجد من المتأخرين من ينسب (للباب) القول إن (البتة) لا تقال إلا بهمزة قطع(4).
ثم نجد الكرماني (786هـ) يذكر هذا الأمر في أربعة مواضع، أولها قوله «والهمزة في لفظ البتة للقطع لا للوصول وذلك بمعزل عن القياس»(5). ولعل هذا ما جعل من جاء بعده ينسب إليه جزمه بأنها للقطع، وقال في موضع آخر «قوله (ألبتة) نصب على المصدر قال النحاة قطع همزة ألبتة بمعزل عن القياس»(6)، وقد يشير بذلك إلى الإسفراييني أو نحويين لا نعرفهم ولا يعرفهم من توقفوا في قوله.
أهم من توقف في قول الكرماني ابن حجر العسقلاني (852هـ)، قال «وَزعم بعض الْعَجم أَن الْبَتَّةَ لم تسمع إِلَّا بِقطع الْهمزَة وَالَّذِي ثَبت فِي الحَدِيث بالوصل، على الجادة فِي ألف التَّعْرِيف، فانتفي مَا نَفَاهُ»(7). وقال في موضع آخر «قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا: قَالَ النُّحَاةُ قَطْعُ هَمْزَةِ أَلْبَتَّةَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْقيَاس ا.هـ. وَفِي دَعْوَى أَنَّهَا تقال بِالْقَطْعِ نَظَرٌ فَإِنَّ أَلِفَ الْبَتَّةَ أَلِفُ وَصْلٍ قَطْعًا، وَالَّذِي قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْبَتَّةَ الْقَطْعُ، وَهُوَ تَفْسِيرُهَا بِمُرَادِفِهَا، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا تُقَالُ بِالْقَطْعِ»(8).
والظاهر أن ابن حجر لم يطلع على قول الإسفراييني، ولذا تعقبه بدر الدين العيني(855هـ) قال «وَقَالَ بَعضهم [يعني ابن حجر] ألفها ألف وصل وَلم أر أحدًا من أهل اللُّغَة قَالَ ذَلِك. قلت: عدم رُؤْيَته لَا يَنْفِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يُحِط بِجَمِيعِ مَا قَالَه أهل اللُّغَة، وَجَهل شخص بِشَيْء لَا يُنَافِي علم غَيره»(9). وقال في موضع آخر «وَقَالَ بَعضهم فِي دَعْوَى أَنَّهَا تقال بِالْقطعِ نظر، فَإِن ألف الْبَتَّةَ ألف وصل قطعًا، وَالَّذِي قَالَه أهل اللُّغَة الْبَتَّةَ: الْقطع، وَهُوَ تَفْسِيرهَا بمرادفها؛ لِأَن الْمُرَاد أَنَّهَا تقال بِالْقطعِ، قلت: النُّحَاة لم يَقُولُوا الْبَتَّةَ الْقطع فَحسب، وَإِنَّمَا قَالُوا: قطع همزَة الْبَتَّةَ، بتصريح نِسْبَة الْقطع إِلَى الْهمزَة»(10).
ومن المحدثين محمد الطاهر بن عاشور لم يتيسر له الاطلاع على (اللباب) فعلل بأن القول بقطع همزة (البتة) مرده للمعنى لا اللفظ، قال «أقول: لعله وهمٌ جرى لبعض من طالع اللباب. فلعله قال: البتة بهمزة: القطع. فقرأها الناسخ: بهمزة القطع، بالإضافة، فإن علماء اللغة لم يذكروا هذا عن اللباب مع غرابته. ولو كان في اللباب لذكروه؛ لأن «اللباب والعباب» كلاهما من أصول كتب اللغة»(11).
ولم يسلم تعقب العيني ابن حجر من الجواب، إذ قال ابن عابدين(1252هـ) «قلت: القياس يقتضي ما قاله الحافظ [ابن حجر] فإنّه من المصادر الثلاثية، وهمزاتها همزة وصل، وبمنازعة العيني لا يثبت المدَّعى. نَعَمْ قد يُقال من حُسْنِ الظنِّ بالإمام الكِرْماني أنّه لا يقولُ ذلك من رأيه مع مخالفته لقياسه على نظائره، فلولا وقوفه على ثَبَت في ذلك لما قاله»(12).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(1) ابن عاشور، كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا، ص: 251.
(2)محمد بن أحمد الإسفراييني، لباب الإعراب، تحقيق: بهاء الدين عبدالوهاب عبدالرحمن، ط1، دار الرفاعي/ الرياض، 1984م. ص280. وانظر: اللباب في علم الإعراب، تحقيق: شوقي المعريّ، ط1، مكتبة لبنان/ بيروت، 1996م، ص78.
(3) نقره كار العباب في شرح لباب الإعراب، رسالة دكتوراه لمحمد نصير الدين، جامعة بشاور باكستان 2000م، ص18.
(4)انظر: خالد الأزهري(905هـ)، التصريح على التوضيح، 1: 506.
(5) محمد بن يوسف بن علي بن سعيد، شمس الدين الكرماني، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري،
13: 123، 16: 102، 19: 233.
(6) الكرماني، الكواكب الدراري، 19: 194.
(7) ابن حجر، فتح الباري، 1: 84.
(8) ابن حجر، فتح الباري، 9: 392.
(9) بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح ا لبخاري، 17: 249.
(10) بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 20: 253.
(11) محمد الطاهر بن عاشور، النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح، ص: 145.
(12) محمد أمين بن عمر بن عابدين، الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة، تحقيق: حاتم صالح الضامن، ط1، دار الرائد العربي/بيروت،1990م، ص53. وقول ابن عابدين «فإنّه من المصادر الثلاثية، وهمزاتها همزة وصل» سهو منه فالبتة صحيح مضعف لا همزة فيه وهمزة (البتة) مع اللام حرف التعريف.