( 1 )
الأستاذ على حد القول والوصف غليظ الطّلة، متجهم الوجه، عنيف جل تعاملاته، عصا خيزران قاسية الوقع لا تفارقه، ولا يقبل من تلميذه إلا أن يُسَمّعَ مادته بكل فروعها عن ظهر قلب.
.. والطفل حديث العهد بالمدرسة، راحَ يخافه على هذا النقل السمعي، حتى والأستاذ في مسكنه بات يهابه، وحينما يكون مضطراً وقتَ ما بعدَ الدراسةِ إلى أن يمرَ على سكنته المجاورة، وهي شقةٌ معلقةً بالدور الثاني من مبنى حجري عتيق، وبابها موصد، وبلكونتها التي لم يرها بأم عينه تبصُ عليه هامدةً، إلا أنَّه قُبالتها ترتعد فرائصه، ويخطو خطواته همساً، لا ينظرها، غاضة عيناه أرضاً، ولا تفزُّ له قامة إلا بعد أن يطمئن أنَّها توارت في الحجب.
( 2 )
في مدرسته، ورغم أنَّ الأستاذ لا يُدرِّسُ له، ولم يُقدرْ له التعامل معه، أو مخالطته، إذ يقتصرُ تدريسه على فئات الصفوف العليا، إلا أنَّ عينه لم يرق لها أن تراه، ولا لقدميه قدرة أن تسعى للاقتراب نحوه، بل بعيداً تقطع المسافة فارقةً.
.. وأمَّا في البيت فهو جلَّ وقته ماكث، يتودد الطيور تصحبه أمّه، يقاسمها إعداد الطعام، وتهيئته، وسقية الماء، يداعبُ منها ما يُداعبُ، ويحتضنُ منها ما يحتضنُ، ويهشُ عنها ما يعكر صفوها، ويرفض تلميحات تخرج عن أمّه أنَّه لم يعد صغيراً.
( 3 )
ساعةً تمنى لو أنَّه طائر من فصيلة هذه الطيور، ثم سريعاً ما يتراجع لحظةَ أن يُشاهد أمّه تستعد لذبح إحداها طعاماً، يغضب إشفاقاً، ويغادر البيت موجوعاً، ولحظة العشاء يأبى أن يتناوله.
.. ومرة من مرات تمنى لو أنَّه عصفور بجناحين، يحلق بعيداً في سماء ممتدة لا يطوله مدرس، ثم سريعاً ما يعاود التراجع وقد يئس مغموماً وهو يُصاحب أخاه رحلة صيد ببندقية.
.. وتمنى لو أنَّه كما السمك، يسبحُ حراً طليقاً في ماء صافية لا يعكر نقاءها أشياء، ثم يُعاود التراجع عن أمنيته تلك كما سبق وتراجع عن كل الأمنيات، ومؤخراً ركن إلى نفسه، وانطوى عليها في اضطراب، وصار لا يأنس بحال.
** **
- عبادة عشيبة