في العالم الواقعي يستحيل دمج زمنين مختلفين أو أكثر، فلا يصح أن نقول هذا الفصل من العام اسمه (ربيع شتاء)، وإنما ثمة شتاء، وثمة ربيع، قد لا يكون الحد الفاصل بينهما صارماً في لحظات الانتقال، لكن الذاكرة الزمنية تحفظ للربيع ربيعيته، وللشتاء شتائيته، بملامح طبيعية واضحة اعتاد الناس على ظهورها في الربيع أو في الشتاء.
وإذا كان لا يصح دمج أزمنة مختلفة في العالم الواقعي، فإن ثمة عوالم أخرى تقبل الدمج، مثل عالم الأحلام الذي يمكن من خلاله أن ترى نفسك في أزمنة مختلفة، ويمكن أن تتداخل فيه الأمكنة أيضاً، كما يمكنك فيه القيام بأعمال يستحيل القيام بها في عالم الواقع، كأن ترى نفسك تطير، أو تسقط من شاهق ولا يحدث لك شيء.. كما أن عالم الخيال أيضاً يمكن أن يحدث فيه ما يحدث في عالم الأحلام، ولك أن تتخيل ما لا تستطيع الحصول عليه في واقعك.
والأدب يستفيد مما يحدث في هذه العوالم جميعها (الواقعي، والحُلم، والخيال)، فحينما لا يسعفه الواقع يلجأ الشاعر أو الأديب عموماً إلى الحُلم والخيال لخلق دهشته ورمزيته أو لقراءة الواقع بعين أخرى تكشف ما تعجز الرؤية الواقعية عن قراءته.
وحينما يدمج الأدب بين هذه العوالم فإننا - نحن المتلقين - قد يتعذر علينا فهم العالم الجديد غير الواقعي الذي أنشأه الأديب من عوالم غير متجانسة، وهنا نلجأ إلى التأويل لاستمرار عملية التواصل وفهم العالم الجديد، تماماً مثلما يحدث في تواصلنا اليومي مع شخص غريب ينظر إلينا من بعيد نظرة نشعر أنها غير طبيعية ولا نفهم معناها بشكل دقيق، ويتعذّر علينا سؤاله عنها؛ فنلجأ إلى التأويل لتخمين معنى لتلك النظرة؛ حتى نشعر بأننا نفهم من حولنا.
فالتأويل يحل مشكل عدم الفهم في التواصل اليومي، كما أنه يحل ذلك المشكل في التواصل الأدبي أيضاً، حينما يرمّز الشاعر عوالمه يلجأ القراء إلى التأويل لفهم الأديب وعوالمه، وهو تأويل له ما يسنده في النص وإلا أصبح تقويلاً له أو تقوّلاً عليه.
في هذا الإطار تتنزل قصيدة البردوني (ربيعية الشتاء)، وهي مذيلة في الديوان بتاريخ (مايو - يونيه 1990م)، وهو التاريخ الذي وحِّد فيه اليمنان (الجنوبي والشمالي) في يمن واحد، والوحدة اليمنية التي حدثت في ذلك التاريخ هي ما يسميه البردوني (ربيعية الشتاء)، على أن تاريخ كتابة القصيدة لا يزال يحمل صدى الاحتفالات بذلك الحدث، حيث لم يكن أحد - حينها - يرى في الوحدة إلا تحقيق الأحلام في غمرة من الفرح والنشوة ورفع الأعلام..
لكن للشعر رأياً آخر يتجاوز نشوة الاحتفال، وعيناً أخرى ترى ما لا تراه عين الواقع التي قد يتلاعب بها وتضلَّل أحياناً، فجاءت هذه القصيدة (ربيعية الشتاء)، التي اعتمد فيها البردوني - للتعبير عن رأيه وكشف عالم الواقع - على دمج زمنين مختلفين (الربيع) و(الشتاء) في أسلوب شعري يعبّر عن الحُلم حينما يصطدم بالواقع.
والربيع مسمى زمني يحمل دلالات الجمال، والحُلم، ونمو الأشجار، وتفتح أزهارها.. وتحفظ له ذاكرة الشعر العربي بيت البحتري:
أتاكَ الربيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً
مِنَ الحُسنِ حتّى كَادَ أن يَتَكَلّمَا
وإذا كان الربيع الطلق يكاد أن يتكلم من الحُسن في بعض القصائد؛ فإن الشتاء الكئيب يكاد أن يخرس من الحُزن في قصائد أخرى، فهو يحيل على العواصف، والذبول، وتساقط الأوراق، والكآبة، والوحشة، والموت، يقول صلاح عبدالصبور:
يُنَبِّئُنِي شِتَاءُ هَذَا العَام
أنَّني أموتُ وحدي...
يُنَبِّئُنِي شِتَاءُ هَذَا العَام أنَّ دَاخلي
مُرْتَجِفٌ بردا
وأنَّ قَلبِي مَيّتٌ منذُ الخريف
قد ذَوَى حِينَ ذَوت
أولُ أوراق الشّجر..
وللبردوني قصيدة (شتائية) - وهذا مسمّاها في الديوان - يبدو فيها الليل مشبوهاً وحشيَّ السكون، له ثلاثة أوجه وحشية وآلاف الذقون:
والصوتُ يحترفُ الخيانةَ
والسكوتُ كَمَن يخونْ
وواضح ما فيها من دلالات كئيبة للشتاء لا تختلف عن قصيدة صلاح عبدالصبور، وهو ما يشكّل مدخلاً لقراءة قصيدته ربيعية الشتاء.
وأن تكون هذه الربيعية (ربيعية الشتاء)؛ فإنها تدمج دلالتين مختلفتين لزمنين مختلفين، فالجزء الأول من اسمها حُلم، والآخر ينشئ دلالة مغايرة تئد ذلك الحُلم؛ وينتج عن جمع الزمانين المختلفين بدلالتيهما المختلفتين ما يسميه آيزر فجوة جمالية تستدعي التأويل، أي فجوة ينتجها تجاور كلمتين بينهما تنافر دلالي.
ويكشف لنا التأويل أن ما يحيل على الحُلم (الربيع) يُنسب إلى ما يحيل على تساقط الحُلم وذبوله (الشتاء)، فالربيعية لم تكن بنت الربيع، وإنما هي بنت الشتاء، معنى هذا أن الربيعية/ الوحدة حُلم في حد ذاتها، لكن هذا الحُلم لم يأتِ في زمنه الحقيقي (الربيع) الذي يُنعش الأحلام، فلم تكن (ربيعية الربيع) وإنما جاءت في زمن جهل وأمية وتخلف (شتاء)، وبما أنها (ربيعية الشتاء)؛ فهي تحمل بذرة الخلافات من اختلاف الأزمنة في ت كوينها، وستغدو حُلماً متعثراً أو لنقل حُلماً شتائياً، وبتعبير آخر حُلم جاء في غير أوانه.
ثمة استعجال إذن في أمر الربيعية يؤكده النص، حيث استعجلت مجيئها وجاءت شتاءً قبل وقتها الربيعي، وهو الاستعجال الذي يمكن أن يُؤَّول على أنها أرادت أن تفاجئ منتظريها وتدهشهم، غير أن ثمة تأويلاً آخر للاستعجال ليس لداعي القلب يدٌ فيه، وهو أن ثمة من دفع بها إلى المجيء في الشتاء، وهذا التأويل هو الذي يراه الشاعر حيث يقول:
أظنُّ ما أسرعتِ كي تُدهشي
هل قال داعي القلب أن تُقبلي؟
لم يقل داعي القلب ذلك كما يقول النص في دلالاته الشتائية.
ولم يبدو العنوان مجرد تلاعب بالألفاظ، بل هو نص مصغّر، أو بؤرة تنداح منها دوائر النص، الذي تنبث فيه دلالات الحُلم (الربيع)، ودلالات الذبول (الشتاء)؛ وينتج الدمج في نهاية المطاف رأي البردوني عن ما أسماها (ربيعية الشتاء)/ الوحدة اليمنية.
فمن الدلالات الربيعية قوله:
هذا الذي سمّيته منزلي
كان انتظاراً قبلَ أن تدخلي
كان سؤالَ القلبِ عن قلبه
يشتاق عن قلبيه أن تسألي
وفي انتظار المنزل لهذه القادمة وفي سؤال القلب عن قلبه وحديث الاشتياق ما يشي بربيع منتظر، وأن ما سيأتي أو أتى حُلم جميل يستحق الانتظار، على أن المنزل لم يكن منتظراً فحسب بل (كان انتظاراً)، وهي درجة أعلى من (المنتظر) في التعلّق بما هو آت.
يضاف إلى تلك الدلالات الربيعية اتساع المنزل بزائرته، في مفارقة تنشئ عكس ما هو معتاد، فالمنزل قد يضيق حينما يقدم إليه قادم، فإن لم يضق لن يتسع في الحقيقة، لكن الشاعر هنا يقول إن المنزل اتسع بزائرته:
كان كَوجْرِ الضَّبِّ ذا البيتُ لو
أتيتِ قبلاً خفتُ أن تَجفلي
والآنَ مِن بعد التَّصَابي صَبا
وقامَ بعد العُري كي يحتلي
والمفارقة تكشف أثر الربيعية بين ما كان وما أصبح عليه حال المنزل الآن، (كان كوجر الضب)، (والآن من بعد التصابي صبا).
غير أن دلالات الحيرة، والعقم، والإخصاء، والكيد، والاستبدال، حاضرة ضمن الدلالات الشتائية في حديث الربيعية وحديث محاورها:
سألتُ ذاتَ الودع: ما طالعي؟
أفضتْ بردَّين: عليَّ وليْ
وهو السؤال الذي تبدو الربيعية من خلاله قادمة من المجهول وإلى المجهول، حائرة تسأل ذاتَ الودع عن طالعها وعن أزواجها الذين لا تدري إلى أيّهم تميل:
لِأَيِّ أزواجي جنى عشرتي؟
خذي سواهم قبلَ أن تحملي
ووضع أزواج متعددين للربيعية هو تعبير عن الشركاء في المشروع السياسي حينها؛ لكي يستطيع الشاعر أن يمرّر نصيحته لها بشأنهم (خذي سواهم قبل أن تحملي)، لكنها نصيحة تضمر وضعاً شتائياً غير مطمئن، وتحمل قناعة الناصح بأن الربيعية لن تستقر مع أزواجها (الشركاء فيها).
وحينما تعاود الربيعية التفاؤل وتريد أن تصحح للشاعر بأن شطري اليمن قد أصبحا من خلالها شطراً عربياً واحداً؛ فإن الشاعر يكبح تفاؤلها:
قل: أصبح الشطران بي شطرةً
لا بأس في جرحيكِ أن تَرْفُلي
ولاحظ هنا أنه قال (في جرحيكِ) ولم يقل (في شطريكِ)، رغم أن حديثها كان عن الشطرين اللذين أصبحا بها شطرة، لكن الشاعر قال (لا بأس في جرحيكِ أن تَرْفُلي)، وهو استبدال أسلوبي يكبح دلالة التفاؤل (الربيع)، ويغلّب دلالة الألم (الشتاء)، ولكنه لا يريد أن يعطّل عليها فرحتها، فلا بأس أن تحتفل على أن لا تغالط احتفالاتها عين الحقيقة التي تأتي على لسان مُضْنٍ في النص:
وقال مضنٍ يالعقيمُ التي
شاءت مواني (هِنْت) أن تحبلي
في هذا البيت يكشف البردوني سبب استعجال الربيعية في المجيء شتاءً، ويعزو ذلك إلى مشيئة الشركات النفطية التي كانت تعمل في شطر وتحتاج إلى موانئ الشطر الآخر، وعبّر عنها هنا بشركة (هنت) النفطية، التي دمجت مشروعين مختلفين يضمران غير ما يظهران، وهذا ما يظهر بوضوح في قوله:
يا بنتَ أُمِّ الضِّمْدِ قولي لنا
أيُّ عليٍّ سوف يُخصي علي
وهنا يسلمنا العُقم إلى الإخصاء لا إلى الولادة (أيُّ عليّ سوف يخصي علي؟)، وهو السؤال الذي يبرز دلالة الاستعجال والصراع والمؤامرة، ثم تتواصل أسئلة الشاعر للربيعية؛ لتكشف ما خلف الاحتفالات:
من غيّر التشكيلَ عن شكلهِ؟
قوّى على (الصِّلْوي) يدَ (المِقْوَلي)
والحديث عن التشكيل يثير في الذهن الرسم، غير أن السياق السياسي يتجه به إلى التشكيل الجديد لخرائط الجغرافيا والقوة العسكرية، ويرى البردوني أن ثمة من يستغل الترتيب الجديد لتقوية طرف على طرف، حيث يرمز بـ(الصلوي) لليمن الجنوبي، وبـ(المقولي) لليمن الشمالي. فمن الذي يقوّي أحدهما على الآخر مستغلاً الحدث الجديد؟ ومن الذي غيّر التشكيل عن شكله الذي كان عليه؟
وهي تساؤلات تكشف دلالات شتائية تستشعرها الربيعية؛ لذلك لم تجب على سؤال الشاعر، بل ضحكت وتسألت هي الأخرى:
فاستضحكت قائلةً: أيُّنا
أراد هذا؟ قلتُ: لا رأي لِيْ
وضحكها يبيّن أنها أدركت ما يرمي إليه سؤال محاورها عن دلالات المؤامرة والإخصاء؛ فتساءلتْ: أيُّنا أراد هذا؟ تريد إجابة من الشاعر، غير أنه بعد أن اطمأن إلى أن إشارته قد وصلت إليها أجاب:
قلتُ: لا رأي لِيْ.
** **
- د. عمر باصريح