لعلَّ أوَّلَ سؤالٍ يتبادر إلى ذهن القارئ للعنوان أعلاه: ما العلاقة بين تمدُّد الكون وتجدُّد اللغة؟! ولعلَّه – أيضًا- سؤالٌ مشروعٌ، بيد أنه من المشروع أن يُمهِل القارئُ نفسَه قليلاً؛ حتى تتَّضِح له سرُّ العلاقةِ وكُنهها.
يقول العلماء والباحثون في علم الفلك: إنَّ كوننا متمدِّدٌ، ولا يبقى على حاله، ويستدلون بقول الله تعالى(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(الذاريات: 47). وذهب بعضهم إلى أن كل شيء على هذه الحياة يتغير ويتجدَّدُ، وتظهر نباتاتٌ جديدة لم يكن الإنسانُ يعرفُها، وتظهر، كذلك، حيواناتٌ وميكروباتٌ وفايروسات وبكتيريا.. فالمحصلة من هذا كلِّه أنَّ الكون -بمجراته وحيواناته، ومادبَّ على أرضه في تجدد دائم، وحركة مستمرة.
ولغتُنا جزءٌ من الكون، وقد تكُون الحقيقةُ السابقةُ - أيْ حقيقةُ التغيُّر والتَّجديد- قد أشار إليهما علماءُ اللغة، بقصدٍ أو بغير قصد، حين قالوا: إنَّ اللغةَ كائنٌ حيٌّ. وعندئذ، فمنطقية الأشياء توحي بتغيرها وتجددها، بل هي، قبل ذلك، آيةٌ من آياتِ الله؛ يقول سبحانه وتعالى: (ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (الروم 22). (فاخْتِلَاف) هنا معطوفة على (خَلْق)؛ للدِّلالة على أنَّ اختلاف الألسن وتبدلَّها آيةٌ من آيات الله سبحانه وتعالى، وفيها عِظةٌ للمخلوقات. واللغة حينئذ، ظاهرة من الظواهر التي لا ينتهي منها العجب، ولا تملُّ منها أعينُ الناظرين وأولو الأبصار والنُّهى.
وتأسيسًا على ما تقدِّم ،فإنَّ التغيُّر واللغة أمران متلازمان لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر، وعلينا عندئذٍ أنْ نَكُونَ مستعدين لهذا التغيُّر اللُّغوي، مقرونين بالشَّجاعة والجرأة على تقبُّلِه.
والاستعدادُ للتغيير -في ظَنِّي- مهارةٌ مهمَّة لدى الإنسان، قد لا تأتي بين عشيَّة وضُحاها، بل قد تأخذ رَدحًا من الزَّمن، وعندها يحتاج الإنسان أنْ يمرِّن عليها نفسه، ويهذِّب حواسَّه على تقبلها، فالجامد قد تكون قناعاته مثله جامدةً ، حتى وإنْ رأى صوابًا، أو أُرشدَ إليه، فتغيير القناعاتِ ليس يسيرًا ، لكنَّه يظل أمرًا مهمًا نحتاجه في كثير من الظروف، لا سيَّما عند أهل الحَلِّ، وأصحابِ الشَّأنِ في قرارات التَّغير اللُّغوي.
إنَّ الاستعدادَ للتغيير والوعي به يتطلب توافر جهود المتخصصين المنافحين عن العربية، فلا يتركونها لغيرهم من غير المتخصصين، وعندها يكُون التغيير مؤسَّسًا على بنيان واضح؛ علميًّا ولغويًّا، وصَدَرَ من أولي بصيرة بجوانب التغير اللغوي، ومظاهرِه الحاليَّة والمستقبليَّة.
وكثيرٌ من الجوانب التي تحيط باللغة تحتاج إلى عاصفة التغيير؛ كي يصحو هذا الجيل على لغة نشيطة ومتواكبة مع عصره: معجمًا، وتعليمًا، وتعلمًا، ومراكزَ، ومجامعَ، وبحوثًا.. ولا يعتمد على حفظ كلمات معزولة عن سياقاتها لا تتماشى مع الاستعمال الطبيعي للغة. ولإزالة الغموض عن هذا الموضوع ينبغي أن نركِّز على الُّلغة، ونجيب عن سؤالين مهمين: ماذا نريد من الُّلغة؟، وما تُريدهُ الُّلغةُ منَّا؟ ولا يعني هذا ألا نحافظ على أصول اللغة وثوابتها التي أُنزلَ بها كتابُنا الكريم، و أقرَّها أسلافُنا، وإنما ننطلق منها حتى تبلغ تِي المكانة التي نريدها وتستحقها لغتنا.
وقد حَضرتُ خلال هذه السَّنة مؤتمرًا عن ( التَّغَيُّر والتَّباين في اللهجات العربية)، وقد أشار بعض المشاركين فيه إلى أنَّ اللغات التي لا تتغير لغاتٌ ميِّتةٌ. ولغتنا العربية ليست بهذا الوصف, وليست مهددة بالانقراض، بل على العكس، هي لغة قابلة للتجدد والتغير ومواكبة العصر الحديث بجميع تغيراته واتجاهاته.
إنَّ الُّلغة تحيط بنا من جميع الاتجاهات: السياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ، والاجتماعيَّة، والثقافيَّةِ. وكما تتسارع وتيرة العالم في هذه الجوانب، فهي في اللغات أسرعُ، وربما تكون أكثر ملاحظةً. ولا نذهب بعيدًا، فخلال أيامنا هذه أُنشئ مجمعُ الملك سلمان الدولي للغة العربية: الذي جعل رؤيته» الرِّيادة والمرجعيَّة العالميَّة في خدمة الُّلغة العربيَّة. وقبْلَه مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة الُلغة العربيَّة، هذا المركز الذي الذي أنشِئ في مُنتصَف عام (1429ه)، وكان من أهمِّ أهدافِه إيجاد البيئة الملائمة لتطوير اللغة العربية ونشرها. ولفظ(التطوير) الوارد في أهداف المركز هو استشراف من القائمين عليه ؛ إذ دعت إليه حاجة اللغة للتطوير والنَّماء، وهذا ما أشرتُ إليه آنفًا.
وظهر في أيَّامنا هذه-أيضًا-مُعجمان تاريخيَّان، هما: مُعْجمُ الدَّوحة والشَّارقة التَّاريخيَّان. فمُعجم الشَّارقة أنْجَزَ حتَّى الآن سبعةَ عشرَ مُجَلَدًا. وتغطِّي هذهِ المجلداتُ الأحرفَ الخمسةَ الأولى: الهمزة، والبَاء، والتَّاء، والثَّاء، وا لجِيم. وناله كثيرٌ من التَّطوير، مثل: الاستشهاد بالشِّعر والنَّثر ، خاصةً الشُّعراء الذين لم يكن يَحتَجُّ أهلُ اللُّغةِ بشِعرِهم، وكانوا خارجَ زمنِ الاحتجاج، كالمتنبيّ.
وهذا المعجم الذي رُصِدت فيه الدلالاتُ الجديدةُ وتطوراتُها؛ يَدُلُّ على أنَّه مواكبٌ للتغيرات اللغوية، ومساندٌ لقضية تجديد اللغة وإثراء معاجمها، إذ لا تبقى جامدةً عند حدود ألفاظ كُتبت قبل مئات السِّنين، وقد تكون عبئًا كبيرًا على الجيل الجديد عندما ينخرط في قراءة لغته، ويقارنها بما هو موجود في حاضره. و قريب من معجم الشارقة معجم الدَّوحة التَّاريخيُّ، الذي جعل من هُويتِه «معجمًا مفتوحًا»، مستمرًا في التَّجديد وإضافة الألفاظ التي قد تظهر لاحقًا.
إضافة إلى ما مضى أقول : إنَّ هذه المراكز والمجامع من الأولى لها-أيضًا- التنبه إلى أهمية اللهجات العربية الموجودة بين ظهرانينا، ودراستِها، والتنقيبِ عنها ، وتسجيلها، ومعرفة أصولها وكلماتها، فلو دَرَسَ المَجْمَعُ الُّلغويُّ في القاهرة (لهجةَ سيوة SIWA LANGUAGE)في مصر، وعَرَفَ منشأها، وقواعدَها، وضمائرَها، وجوانبَ تأثُّرِ الُّلغة العربيَّة بها، أو تأثيرها في اللغة العربية، أأصبحت لغة ثانية أم لغةً أمًّا، أم لغة تواصلٍ مشتركة ؟. وإجراء دراسة تقابلية بينها و اللغة العربية Contrastive Study)).
وكذلك لو دَرَسَ مركزُ خدمة اللغة العربية في المملكة العربية السعودية (لهجة فيفا) دراسةً علميَّة، والإفادة منها، ومعرفة خصائصها، وقواعدها. ولو تبنَّى مركزُ اللغة العربية في الشَّارقة دراسةَ الَّلهجة (الشِّحية) أو ما يعرف بـ(لهجة الشحوح)، ومعرفة امتداداتها، ومدى ارتباطها بالعربية. والحقيقة أنَّ الأبواب في هذا المجال كثيرة ومفتوحة على مصراعيها لمن أراد أن يلجَ ويبحث في جوانب العلاقات الُّلغوية والتَّغيُّر الُّلغوي.
وأردت من الأمثلة السابقة, أولاً: الانطلاق منها في خدمة اللغة العربية, وثانيًا: الدلالة على أنَّ لدينا مخزونًا لهجيًّا هائلاً يمكن استكشافه ومعرفته من تراث العربية ، أو اللهجات واللغات المجاورة للعربية، فنحن على عاتقنا مهمة كبيرة في النهوض باللغة والرقي باستعمالها ، ولعلي أستشهد هنا بقول عبد العلي الودغيري في كتابه ( اللُّغة العربيَّة في مراحل الضَّعف والتَّبعيَّة) ص: 15) إذ يقول «فاللغات تَسُودُ وتقوى وتنمو وتتغلَّبُ وتتطوَّر بإرادة أصحابها، لا بإرادتها هي، وكذلك تذْبُل وتَنكَمِش ويصيبها البَوارُ والضَّعفُ والهُزالُ، بل الموتُ والانقراضُ بتفريط أهلها وإهمالهم لحالها وانصرافهم وتخلِّيهم عنها.» . ويقول أيضًا (ص: 19) :» إن إبعاد العربية عن المجالات الحيوية، وخاصة في تلقين العلوم الدقيقة والتقنيات، ومجالات الاقتصاد والتجارة والتدبير وأسواق المال والبنوك والمقاولات وقطاع الخِدْمات وجزء واسع من فضاءات الإعلام والإدارة، هو عنوان إهمالها ودليل على الرغبة في تأخيرها وتهميشها. وإلا كيف للُّغة أنْ تنمو وتتطور وهي في حالة إبعاد وإقصاء؟!».
ونحن الآنَ أمام خيارات كثيرة للتعامل مع اللُّغة- لا سيما لغتنا العربية- فمنذ أحداث(11سبتمبر) هناك تركيز على اللغة العربية: لهجاتها، وتعليمها وتعلُّمها. ولعلَّ ما حدث في العلا من إنشاء (معهد العُلا للغات)، تحت مظلة الهيئة الملكية لمحافظة العُلا ، يدل دلالة واضحة على أن هناك حراكًا يهتم بالُّلغة، بوصفها مشروعًا ثقافيًّا مهمًا، يؤمن بالتعددية الثقافيَّة والُّلغوية ، إذ يضم المعهدُ خمسَ لغاتٍ، هي: الُّلغة العربية، والفرنسيَّة، والإنجليزيَّة، والصِّينيَّة، والنَّبطيَّة) ، ولكنَّه في ذات الوقت يعطي للِّغة الأمِّ مكانتها وأهميتها، بحيث يكون للغة حضورها بجانب اللغات القوية، وكذلك بوصفها قوى ناعمة لا ينبغي علينا أن نغفل عنها ، أو نغمض عنها عينًا ونفتح الأخرى. فلا نريد للغتنا ولهجاتِها أنْ يصيبها وقْرٌ، وإنَّما نريد أنْ يكونَ الحراكُ الُّلغويُّ فاعلاً ومساندًا لرؤية وطننا المملكة العربية السعودية(2030)، هذه الرؤية التي باركها خادمُ الحرمينِ الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز- حفظه الله- وقادها صاحبُ السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله.
** **
- د. فهد المطيري