عقد ابن رشيق (ت 456) في (العمدة) بابًا للحشو وفضول الكلام [69/2]، قال: «وسماه قوم (الاتكاء)، وذلك أن يكون في داخل البيت من الشعر لفظ لا يفيد معنى، وإنما أدخله الشاعر لإقامة الوزن». وضرب مثالاً لذلك بقول زيد الخيل:
يقول أرى زيدًا وقد كان معدما
(أراه لعمري) قد تموَّل واقتنَى
فإن كان اللفظ المقحم في القافية؛ فهو (استدعاء) مثل قول عدي القرشي:
ووقيتَ الحتوف من وارث والٍ،
وأبقاك صالحا ربُّ (هودِ)
فإنه لم يأت لهود النبي عليه السلام ههنا معنى إلا كونه قافية.
وعدَّ ابن رشيق من الحشو غير المستحسن بعض الألفاظ التي ليس فيها زيادة معنى، فقال: «ويكره للشاعر استعمال (ذا، وذي، والذي، وهو، وهذا، وهذي)، وكان أبو الطيب مولعًا بها، مكثرًا منها في شعره... وكذلك يكره للشاعر قوله في شعره (حقًا) إلا أن تقع موقعها كما في قول الأخطل:
فأقسم المجد (حقًا) لا يحالفهم
حتى يحالف بطنَ الراحة الشَّعرُ
ووجدت الحذاق يعيبون قول ابن الحدادية، وهي أمه، واسمه قيس بن منقذ:
إن الفؤاد (قد) اْمسى هائمًا كلفا
(قد) شفَّه ذِكر سلمى اليوم فانتكسا
لحشوه ب (قد) في موضعين من البيت، ثم ب (أمسى) و(اليوم) على تناقضهما.
قلت: وقوله (كلفا) حشو بعد (هائما).
وتأكيدًا لقول ابن رشيق أُورد بيت كعب بن زهير التالي الذي أقحم فيه كلمة (ها) لإقامة الوزن:
عاد السواد بياضًا في مفارقه
لا مرحبًا (ها) بذا الشيب الذي ردفا
وقد جعل صاحب العمدة هذا الباب تاليًا لأنواع من الحشو الحسن؛ كالالتفات والاستثناء والتتميم. وفيما يلي عرض مختصر لهذه الأنواع.
ف (الالتفات) - وهو الاعتراض - عند قوم، وسماه آخرون (الاستدراك)، ونقله ابن رشيق عن قدامة (ت 337) هو «أن يكون الشاعر آخذًا في معنى ثم يعرض له غيره، فيعدل عن الأول إلى الثاني، فيأتي به ثم يعود إلى الأول من غير أن يخل في شيء مما يشد الأول». وضرب لذلك مثالاً بقول كثيّر:
لو أن الباخلين (وأنتِ منهم)
رأوكِ تعلموا منكِ المطالا
وقول عوف بن محلم:
إن الثمانين (وبلغتَها)
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وكما يأتي الالتفات في صدر البيت يجيء في آخره، كقول جرير:
أتنسى إذ تودعنا سليمى
بعود بشامة (سُقِي البشام)
ولا يعدُّ ابن المعتز (ت 296) الالتفات إلا إذا انصرف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار، كما تقدم، وكما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، وقول ابن المعتز نفسه:
طرب الحمام بذي الأراك فهاجني
(لازلتَ في ظلٍّ وأيكٍ ناضرِ)
وإن لم ينتقل المتكلم بخطابه من حال إلى حال، فهو - عنده - اعتراض كلام في كلام. كقول النابغة الجعدي:
ألا زعمت بنو عبس بأني
(ألا كذبوا) كبير السن فاني
ولعل من جميل الاعتراض، قول أبي الطمحان القيني:
حنتني حانيات الدهر حتى
كأني خاتل أرنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني
(ولستُ مقيدا) أني بقيد
والنوع الثاني من الحشو الحسن (الاستثناء)، ويسميه ابن المعتز توكيد المدح بما يشبه الذم، ومن مشهور أمثلته قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وقول حاتم الطائي:
وما تتشكّى جارتي غير أنني
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
وينبهنا ابن رشيق أن هذا ليس استثناء على ما رتبه النحويون بحروف الاستثناء المعروفة، وإنما سمي كذلك اصطلاحًا.
والنوع الثالث هو (التتميم)، وهو التمام أيضًا. وبعضهم يسمي ضربًا منه (احتراسًا) و(احتياطًا). وهو أن يحاول الشاعر معنى فلا يدع شيئًا يتم به حسنه إلا أورده وأتى به، إما مبالغة وإما احتياطًا واحتراسًا من التقصير. والأصل في هذا قول الله عز وجل: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرًا). فقوله (على حبه) هو التتميم والمبالغة في قول من قال إن الهاء ضمير الطعام.
ومثله من الشعر قول طرفة:
فسقى ديارَكَ (غير مفسدها)
صوبُ الربيع وديمةٌ تهمي
وقول زهير:
من يلق يوما (على علاته) هرِما
يلق السماحة منه والندى خلقا
وقول سراقة البارقي يهجو رهط جرير:
صغارٌ مقاريهم، عظام عجورُهم
بطاءٌ عن الداعي (إذا لم يكن أكلا)
إذ لو كانت الدعوة لطعام لوجدتهم سراعا. وهذا هجاء مقذع، تقدمه في الشطر الأول هجاؤهم بصغر الآنية التي يقدم فيها الطعام، وعِظم الأستاه.
** **
- سعد عبد الله الغريبي