د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في المقال السابق تحدثنا عن الصين الحاضرة، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه بهذه السرعة في عمر الزمن، وأصبحت الآن مميزة في جميع المجالات سواء الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، كان الحديث حول تساؤلات طُرحت عن الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة، وكانت الثقافة، والإدارة، والوراثة، نقاط تم المرور بها لعلنا نجد من خلالها باباً ندخل من خلاله لمعرفة بعض من أمر ما زال مستعصيًا عن فهم البعض، أو إن صح القول الكثير، قلنا إن هناك ثقافات وافدة إلى الصين، وهي الدين الإسلامي، واليهودية، والمسيحية، والمعتقد البوذي، وأخرى فلسفات محلية وهي الكنفوشيسيه، والطاوية.
لا يمكننا أن نغفل الجغرافيا، والبيئة، والمناخ، كعوامل تؤثر في سلوك القاطنين في منطقة معينة، والصين كما نعلم محاطة بالبحر من كل جهة ما عدا الجهة الشمالية، وحتى تلك الجهة فإن بها جبال عالية تجعل من العسير على الأقوام الأخرى القريبة من الصين أو الصينيين الانتقال في أعداد كبيرة إلى أو من الشمال أو إليه، قبل الميلاد بقرون عديدة، لكن فيما بعد، وبعد أن استطاع الإنسان أن يروض الحصان وغيره من وسائل النقل، أن يحقق إنجازاً كبيراً، ويبحث عن مسالك تجعله ينتقل إلى جهات كانت عسيرة عليه، وفي ظل هذه البيئة، اعتمد الشعب الصيني على ثقافته الذاتية الداخلية، وهو شعب حضاري يسكن في القرية، ويعتمد على الزراعة، ولهذا فإن له خصائص خاصة به استقاها من البيئة والحاجة إلى المعيشة والتعايش أيضًا في ظل هذا الكيان الواسع والمغلق على نفسه، وقد جرب الشعب الصيني، الحكم العشائرية، وحكم القبيلة، والملكية، وحكم الإمبراطوريات المتعاقبة، والشيوعية، كما أن جزءًا منه عاش تحت الاستعمار الغربي، والياباني، في فترة معينة من الزمن لم تطل كثيراً. سنقف عند فترة معينة قبل 3000 عام، حيث كان هناك انتقال من النظام العشائرية إلى النظام الوحدوي، وكان الحكم العشائرية فيه بعضاً من عدم العدل والمساواة، والكثير من الظلم أيضًا، وعندما قرر قائد أحد تلك العشائر أن يجعل عشيرته جامعة لكل تلك العشائر في نظام وحدوي، صاحب ذلك الطموح والإنجاز الذي تم، الكثير من القسوة وموت الكثير من البشر في سبيل تحقيق ذلك الهدف، وفي ظل هذا المناخ، ظهر طاوا المعلم وبدأت الطاوية وأفكارها التي تنصح الناس في مقولة مشهورة : (سر مع التيار)، وهو بهذا ينصح الكثير من السكان أن يبتعد عن الموضوع السياسي، وأن ينصرف إلى الاهتمام بالصحة الجسدية والروحية، وذلك من خلال بعض التمارين الجسدية التي يصاحبها بعض التأملات وتمديد العضلات، والهدوء، والسكينة في شكل جماعي أو فردي، والطوية تشجع على الإبحار في عالم الوجدان، والتأمل في الكون الفسيح لتعطي النفس درجة من الإشباع الروحي للحصول على مزيد من الراحة والاطمئنان بعيدًا عن الدخول في عالم السياسة التي تحمل في طياتها الكثير من الضغوط النفسية والجسدية، التي لابد لها أن تنعكس على الصحة والسعادة لدى الإنسان. والحقيقة أن الإنسان في هذا اليوم، فهل بذرت الطاوية في نفوس الشعب الصيني بذرة العمل الجماعي والصبر والامتثال والطاة، وكذلك الانصراف إلى العمل الإنتاجي، وعدم تضييع الوقت في أمور ليست من اختصاص الفرد، ربما يكون ذلك واقعاً، وربما أن ذلك كان سائداً لدى الشعب الصيني من قبل، لكن الطوية صنعته في قولب يمكن التعامل معه بشكل يومي وممنهج للفرد والجماعة، وأيضًا ضبط ذلك في حركات جسدية، وتأملات فكرية مكتوبة. كنفوشس عاش قبل الميلاد، حيث وُلد عام 551 قبل الميلاد، وتوفي عام 479 وكان وزيراً، ونائبًا لرئيس الوزراء، ولهذا فهو سياسي محترف، وبعد أن فصل من وظيفته، أخذ يجوب الديار الصينية، ينشر مبادئه التي تعتمد في أساسها على العلاقة بين الحاكم والمحكوم وما هي حقوق كل منهم، وتركز على السلوكيات العامة، والأخلاق الحميدة، والفضائل في التعامل والسلوك، كما تحدث عن التسامح، وحسن الإدارة، واحترام الأسرة، وتوقير الكبير، والعطف على الصغير، ويرى أن التربية قادرة على تهذيب النفس، مهما جبلت عليه من شر، وأنها قادرة على تكوين مجتمع فاضل إذا أتيحت للجميع، وهو يرى أيضًا أن ليس هناك معجزات، وإنما هناك عمل وهناك إنجاز.
ربما يكون لهاتين الفلسفتين، وما سبقهما من طبيعة بشرية للشعب الصيني، التي استمدها من الطبيعة، والمناخ، والبيئة الزراعية، التي كانت سائدة في ذلك الوقت، أن جبل على العمل الجماعي والتعاون فيما بين الناس في قراهم ومدنهم على ضفاف الأنهار، وفي المناطق الزراعية التي يكثر فيها تساقط المطر، ربما يكون ذلك إحدى لبنات ثقافة الصين الإبداعية.