د. محمد بن إبراهيم الملحم
«المجتمع المثقف» هو ذلك الذي يتسم بامتلاك أفراده لقدر كاف من الثقافة الأساسية بالإضافة إلى كونهم قادرين على اكتساب المزيد للتعرف على مستجدات العالم حولهم، فهم يملكون «أدوات العلم» ولديهم ملكة التعلُّم كما أن شهيتهم له مفتوحة على الدوام، القراءة تأتي في قلب هذا الجسد المعرفي النابض بحياة الفهم والاستيعاب، فبواسطتها يعرفون أخبار من حولهم ويتعرفون على الجديد، ومن خلالها يتعلمونه أيضاً، كما أنه وسيلتهم لفهم بعضهم بعضاً، فهناك بينهم من يحمل فكراً ورؤى متجددة يطالعونها ويفهمون فيتفهمون، ومن خلالها يتكون الوعي العام نحو أية قضية وطنية أو إقليمية أو كونية، وفي مضامين المحتوى المقروء تدور أحاديثهم وتفاعلاتهم الاجتماعية، وبدائل القراءة الجديدة تتبدى في المقاطع الصوتية أو مقاطع الفيديو المرئية فهي تحمل نفس مضمون النص المقروء بل تقدمه أحياناً بصورة مشوقة ومفهومة أكثر، وبالتالي فهي تقوم بنفس الدور لتشكيل المجتمع المثقف، ولكن الركيزة الأساس وقطب الرحى هنا هي توافر توجه لدى المتلقي للمحتوى المتضمن «التعلُّم» وتخصيص وقته للاستماع أو المشاهدة، مع قدر كاف من شهية التركيز لأجل الفهم، وهذه كلها يفترض أنها تشكلت مبكراً من خلال ممارسات التدريس القائم على «التعلّم مدى الحياة» فهي التي تصنع هذا التوجه والسلوك بما فيه الكفاية لتحقيق هدف التثقف والمثاقفة هذا.
من هنا فإن التعلُّم مدى الحياة هو السبيل الأول والأمثل نحو إيجاد «المجتمع المثقف» ذلك المجتمع الذي يسوده السلام فالفهم المتبادل هو سمة هذا المجتمع لأنه يتكلم بلغة واحدة تقريباً يفهمها الجميع ويتفاهمون بها، بينما في الحالة الأخرى ستجد لغات متفاوتة تجعل من التفاهم مهمة صعبة في كثير من الأحيان وهو ما ينأى بالمجتمع عن فضيلة التفاهم والتفاكر والامتثال لمتطلبات التحضر التي تأخذ به للتقدم والنماء. والتعليم الرسمي الذي لا يقدر هذه الحقيقة (ويعمل لأجلها) فإنه يتحول إلى نظام صنع الشهادات لإنتاج عدد من عناصر الإنتاج (وهو إنتاج محدود بمحدودية مهارات التخرج!) وهذا النظام لا يخدم جانب المدنية والتمدن أو التحضر civilization بما يكفي لتقول عن ذلك المجتمع إنه مجتمع متحضر، فمحدودية الثقافة وقصر النظر وبساطة الأسلوب ستكون هي أبرز ملامحه مهما تم تزيينه وتجميله بالمحسنات الظاهرية البراقة.
المجتمع المثقف هو أيضاً مجتمع محصن ضد أمراض كثيرة أبرزها التعصب سواء كان في المجال العنصري (القبلي أو الشعوبي) أو المجال الديني أو التشجيع الرياضي وأمثال ذلك، فهو مجتمع يدرك أبعاد العلاقة الاجتماعية بين أفراده ويتفهم أسس الاحترام المتبادل ويقدر القيم كما أنه يعي الدروس التاريخية قريبها وبعيدها ويستحضرها بصورة إيجابية في تفاعل سلمي ومتحضر مع الآخر، إنه بدون الثقافة الواعية يظل المجتمع نهباً لكل ظروف التفكك والتشرذم في ساحات معارك حياتية يصنعها بنفسه ويلقي بذاته فيها تارة بعد أخرى ليدور في حلقاتها ويراوح في مساحاتها دون خطوات للأمام. ومن يقول إن التعليم مسؤول عن ذلك فهو بقصد أو بدونه يرمي إلى التقصير في زرع هذه القيمة: قيمة التعلُّم مدى الحياة وتأسيس الثقافة المجتمعية الواعية، ذلك أن التعليم لو تمكن أبعد التمكن من إكساب الطالب مهارات ومعارف كثيرة وبتفوق مبهر فإنه كفرد سيغدو عنصر إنتاج لا أكثر، لكنه لن يكون لبنة مجتمعية صالحة طالما أن التعليم لم يتمكن من زرع أسس ومُثُل التعلُّم الذاتي وقِيَمه القائمة على حب الفهم والاستيعاب والإقبال على المعرفة، وأعتقد أن العكس يمكن أن يكون صحيحاً، فلو أتقن التعليم الرسمي النظامي زرع قِيَم التعلّم هذه لكن مناهجه ومحتواها كانت متواضعة وقليلة التخطيط والتماهي مع المهارات المتطلبة للتنمية الاقتصادية فإن خريجي تعليم كهذا تأسس على فضيلة التعلُّم مدى الحياة وحب التعلُّم الذاتي وتقدير المعرفة يمكنهم أن يستدرِكوا في بيئة العمل ما فاتهم من المعارف والمهارات ليتحولوا إلى عناصر إنتاجية مفيدة بسهولة وسرعة مناسبة لمتطلبات الاقتصاد الوطني.
باختصار لكل ما قدمته هذه السلسلة: منهج التعلُّم مدى الحياة هو الحل.