د.عبدالرحيم محمود جاموس
من أهم أسباب الفشل الذي تواجهه الخلية الاجتماعية الأولى، وصولاً إلى الأمة أي أمة، والمجتمعات بصفة عامة، ومنها المجتمعات العربية، هو غياب لغة الحوار بين عناصرها وأفرادها ومؤسساتها.
نعم، إن من أهم أسباب الفشل الفردي، أن المرء لا يتقن لغة الحوار والتعاطي مع محيطه الاجتماعي في البيت أو في العمل كونه لا يتقن لغة الحوار.
إما أن تكون معي وإما أن تكون ضدي.. لا مجال للرأي الآخر، هذا ديدن الكثير من الأفراد والهيئات والمؤسسات، سواء كانت تشكيلات سياسية أو اجتماعية، أو اقتصادية، أهلية أو دولانية، سواء.
وهنا يجري تغيب الموضوعية والمنهجية العلمية التي يجب أن تحكم العلاقات الإنسانية على أساس من تبادل الرأي، والمشورة قبل التصرف وقبل اتخاذ القرار، سواء كان قراراً خاصاً أو عاماً، فنجد الروح الفردانية هي المسيطرة دائماً، على حساب رأي الجماعة من الخلية الاجتماعية الأولى أي الأسرة، مروراً بكافة الهيئات، وصولاً إلى المجتمع والدولة، وما فيهما وبينهما من تشكيلات على اختلافها، ذلك ما يمهد الطريق إلى ظهور أشكال مختلفة من العنف داخل المجتمعات، من العنف الأسري، إلى المؤسساتي والمنظم في كثير من الأحيان، والذي قد يمارس باسم القانون والأمن والحفاظ على الأمن والاستقرار، كتبرير لاستخدام العنف في وجه الآخر، واعتباره عنفا مشروعا، يمارسه صاحب الولاية.
الثقافة العربية الإسلامية أرست قواعد أساسية سامية لتحكم وتضبط العلاقات بين الأفراد على كافة المستويات، رافضة كافة أشكال الإكراه حتى في تبني العقيدة، لقوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد كرَّس ثقافة الشورى والحوار على مستوى التعاطي مع الشأن اليومي والحياتي، لقوله صلى الله عليه وسلم (أنتم أبصر بشؤون دنياكم)، والقرآن الكريم قد وضع مبادئ الحوار والجدال وأرسى لها قواعد واضحة وسهلة، حين يوجه الخطاب الإلهي الرسول صلى الله عليه وسلم في أصول الدعوة والإرشاد لقوله تعالى {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، ولقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وقوله جلَّ في علاه {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..}، والاستشهادات على تكريس ثقافة الحوار واحترام الرأي، أي حرية التعبير والتأكيد عليها كثيرة ومتعددة من الكتاب والسنة، والسيرة النبوية، وسير الخلفاء الراشدين التي تستند إلى مبادئ الحوار والشورى التي أكد عليها القرآن الكريم والسنة الشريفة، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.....!
أين نحن من كل ذلك، ومن هذه الثقافة، في التعامل فيما بيننا أفراداً ومؤسسات ودول..؟
حقيقة لو التزمنا بهذه القواعد وهذه الأسس، لتحكم العلاقات فيما بيننا أفراداً وهيئات ومؤسسات وفي كل المستويات، نكون قد امتلكنا مفاتيح الحياة الناجحة، لكن وبكل أسف نحن لا نلتزم بالتوجيه الرباني ولا بالسنة الشريفة في إدارة الحوار البيني داخل الوحدة الاجتماعية الواحدة والأساسية، بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المجتمع مروراً بكافة مؤسساتنا ..... وكذلك ينطبق هذا على حوارنا مع الآخر.....!
لذلك نحن وصلنا إلى مرحلة بالغة السوء، من الضعف والتفكك والانقسام، بتنا .... مجتمعات ... وطوائف ... وأحزاب ... وأفراد فاشلين، بسب التفرّد وغياب الحوار والشورى في كل أمورنا وأحوالنا.. وبات التفرّد والتشبث بالرأي هو سمة من سماتنا، أفراداً ومؤسسات وأحزاباً ومجموعات، تفتقد حتى في داخلها لأسس الشورى والحوار واحترام الرأي والرأي الآخر.
لذا لا سبيل للخروج من حالات الفشل والضعف التي تعتري حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفي كافة مؤسساتنا، وفي كل ميادين الحياة، وصولاً للنجاح والقوة وللوحدة والنهوض والتقدم .... ونحن نكرِّس ثقافة الرأي الأوحد.. وغيره باطل.
متى نتعلَّم الإصغاء للرأي والرأي الآخر ... ونقبل بتعدد الآراء.. ؟ والعمل بالقاعدة الذهبية: رأيي صواب ويحتمل الخطأ.. ورأيك أيضاً صواب يحتمل الخطأ، كي نبني فرداً حراً، ومجتمعاً ومؤسسات ناجحة، تقوم على أسس من احترام الإنسان، واحترام المبادئ السامية التي يجب أن تحكمنا في التعامل فيما بيننا على الأقل، وفي التصرّف في شؤون الحياة بصفة عامة، على أسس موضوعية ومنهجية علمية، بعيداً عن ثقافة الاستفراد والتفرّد والاستبداد في كل المستويات من أدناها إلى أعلاها..!