منال الخميسي
عندما تتابع أحد الأعمال التلفزيونية أو السينمائية يشد انتباهك حدث ما أو شخصية تقوم بدورها بشكل مقنع إلى حدٍ كبير وعندما ينتهي العمل وتمضي أسابيع وربما سنوات وتتعرض لمشاهدة عمل آخر أو يحل بطل أو أبطال العمل ضيوفاً على برنامج يتحدث عما قدموه ربما تأخذ وقتاً طويلاً في تذكر أحداث مسلسلهم أو الفيلم الذي لعبوا بطولته ربما تتساءل من هؤلاء؟ في كل مرة ليس لعيب في ذاكرتك وإنما لسبب آخر، هو أنهم ربما لم يستطيعوا أن يقتحموا ويؤثروا في عقلك ولم يرتقوا إلى درجة أو درجات البطولة والقدرة التي تحفر بداخلك صورهم وأسماءهم وأدوارهم وبالتالي ما قدموا من عمل جماعي.
كل العوامل السابقة مجتمعة من وجهة نظري تسمى «قوة الحضور» والتأثير في الآخر.
إلى جانب المَلكةَ والكاريزما التي تُكمل صورة الممثل أو مقدم البرنامج في ذهنك كي تتطور مجرد المشاهدة إلى إعجاب واقتناع ومن ثم متابعة وتصديق ما عرض عليك وما قُدم لك.
لا تقتصر قوة الحضور فقط على مجال التمثيل وتقديم البرامج وإنما في كل منحى من مناحي الحياة فكثير من البيوت داخل مجتمعاتنا العربية تفتقد لقوة الحضور من جانب الوالدين أو أحدهما ربما لأنهم لم يهتموا بالتأثير القوي في شخصيات أبنائهم معتقدين أنهم فقط إذا منحوا لقب أب أو أم فإنهم بذلك يستطيعون أن يحركوا ويتحكموا بشكل أو بآخر في مجرى حياة أبنائهم وإدارتها دون وعي كيفما شاؤوا بينما يكون الأبناء متأثرين بقدوة أخرى أو بشخصيات قابلوها في حياتهم المدرسية أو الجامعية بعيدة كل البعد عما يحاول الوالدان ذوا الحضور المحدود أن يثبتاه لأبنائهما دون جدوى بينما يكون يسيراً على آخرين اكتملت لديهم مقومات التأثير والإقناع وربما يزيد الأمر للمحاكاة والتقليد، في هذه الأيام ومع انتشار وسيطرة وسائل التواصل والتطبيقات التفاعلية أصبحت صفات المؤثرين وأصحاب الحضور القوي متغيرة ولا تخضع لقالب ولا لتفنيد رقمي كأن نقول:
*- لابد أن يكون واثقاً.
* - مثقفاً إلى آخره من المصطلحات المقولبة.
الأشخاص الذين يمتلكون الحضور القوي في هذه الأيام هم أناس واثقون ليس من أنفسهم فقط وإنما مما يفعلون ومما يقدمون من محتوى حتى وان كان سيئاً أو مُسفاً أو على الجانب الآخر اجتماعياً أو فكرياً يحترم عقل من يتابعه.
اقتناعهم كذلك أن تأثيرهم قد يمثل المصدر الوحيد لثروتهم المادية يجعلهم معتبرين أنها مسألة فاصلة في حياتهم فيتخذون الأساليب كافة غير المألوفة والمتجددة التي يعتبرها أبناؤك شيئاً خارقاً للنمط الذي تريد أن تضعهم فيه أو المتعارف عليه في المجتمع.
عرضُهم لحياتهم الشخصية بمنتهى البساطة والانسيابية والثقة وإشراك الآخرين في اتخاذ قراراتهم يجعل هناك طبقة جديدة من «المؤثرين» وذوي الحضور الطاغي أمام عقول وقلوب الشباب الصغير والكبير أيضاً وربما الآباء والأمهات وخصوصاً في المجتمعات ذات المستوى الفكري والاجتماعي المتوسط أو ما نسميه بالطبقة الوسطى والشعبية، فهم يمتلكون ربما دون أن يعلموا اللغة الجسدية الصحيحة ولا يعتبرون أنفسهم ممثلين، فهم فقط يضعون كاميرات هواتفهم على جانب من الغرفة ويعيشون حياتهم أمام الجميع بكل تفاصيلها وعلى الجانب الآخر يتحكم فضول المشاهدين كي يعرفوا أهم التطورات التي تحدث لأبطالهم لحظة بلحظة ويتسابقون لوضع التعليقات والنصائح والآراء وربما السخرية مما يرفع لهؤلاء الأبطال مستويات المشاهدة ومن ثم مستويات الربح الهائلة.
في تسعينيات القرن الماضي كان هناك ترويج مبدئي لفكرة (تلفزيون الواقع) من خلال برامج وأفلام عدة كان من أبرزها فيلم (The Truman Show) (ذا ترو مان شو) الذي قام ببطولته (Jim Carrey) (جيم كاري) والذي تحدث عن أشخاص يقومون بتصوير الحياة الشخصية لبطل الفيلم منذ ولادته حتى سنوات متأخرة من شبابه دون علمه لجلب أكبر عدد من المشاهدات ومحاولة إيجاد مؤثرات واختلاق أحداث تزيد من تفاعل الجمهور مع أحداث الفيلم الذي كان بطله دون أن يدري وربما يجد من يحاكيه في أسلوب حياته ومن يتأثر به.
وقد لاقى هذا الفيلم صدى واسعاً في تلك الحقبة نظراً لما عرضه من فكرة نقل الحياة الواقعية الشخصية وعرضها للملأ، اعتبره البعض كذلك تمهيداً لاختراق الحياة الشخصية واعتبره الآخرون نوعاً من المشاركة للشخصية في شؤون حياتها مما يخلق نوعاً من المشاركة المجتمعية وتجديداً لأفكار البرامج التي أصبحت ذات طابع يمل منه الكثيرون حينها
كذلك في بداية الألفينيات عندما عرضت ولأول مرة في العالم العربي البرامج الواقعية التي تمثلت في برنامج (ستار أكاديمي) (Star Academy) الذي استحوذ عند عرضه على اهتمام وتفاعل غالبية العائلات في الوطن العربي متابعين للحياة اليومية لمجموعة من الشباب يعيشون بطريقة مختلفة عن الأنماط المتعارف عليها في مجتمعاتنا العربية ومع ذلك كان من البرامج الأعلى مشاهدة وجماهيرية تمثلت في المتابعة الدقيقة للمواقف الحية التي تُعرض لهؤلاء الشباب خاصة وأنه كان يتم تصويرهم وعرض تصرفاتهم منذ ساعات الصباح الأولى إلى أن يخلدوا للنوم، حية على الهواء بدون ترتيب أو سيناريوهات مسبقة.
الآن تطور الأمر تماماً وتحولت أعداد كبيرة وهائلة من أفراد المجتمع في العديد من بلدان العالم إلى أبطال قصص حياتية يومية واقعية يتمتع هؤلاء الأبطال بتأثير فاق التوقعات على أفراد مجتمعاتهم وربما تخطى هذا التأثير إلى مجتمعات مجاورة أو بعيدة ولم يعد عائق اللغة أو اللهجة ليقف أمام هذا التأثير الجارف.
أيقونات وإشارات وسائل التواصل خلقت لغة عالمية تعدت ملايين السنين وفكت العديد من شفرات اللغات واللهجات ولم تعد لغتك أو لهجتك تحتاج إلى علماء ومدارس كي يستطيعوا فك طلاسمها فبأيقونة تحمل وجهاً ضاحكاً أو عابثاً أو تركيب بعض الرموز الكتابية يستطيع ابنك أو ابنتك أن يتواصل مع أشخاص على الجانب الآخر من الكرة الأرضية قد يؤثرون أو يتأثرون كل حسب قوة المحتوى الذي يرسله أو صدقه من عدمه أو عرضه بطريقة غاية في البساطة.
الأقدر على التأثير هو من يجني ملايين المشاهدات ومن ثم ملايين الدولارات ومن أجل تلك الملايين يبذل الكثيرون الغث والثمين من أجل تحقيق الانتشار الأوسع والتأثير الأكبر.
المجتمعات كلها لم تعد بعيدة عن الاختراق بمعنى أنه لم يعد مجدياً أن نقول لا بد وأن نحصن أبناءنا ضد الثقافات الغريبة أو أساليب المجتمعات المختلفة عنا.
الأجدى حالياً هو أن نعد أبناءنا بالقدرات الخاصة بقوة التأثير وأن لا نقف أمام انفتاحهم على الثقافات الأخرى لا ليأخذوا منها ويتأثروا بها وإنما كي يكونوا ذوي قدرات هائلة على الحضور المؤثر نعلمهم جيداً تعاليم دينهم وقواعد مجتمعاتهم وأنه لا بد وأن تكون لهم رسالة لا يستخدمون فيها أسلوب التصادم والعراك ومعاداة الآخر وإنما محاولة إقناعه بأنهم الأصح وأن مجتمعاتهم تملك العديد من الثروات العقلية وأنهم أصحاب إرث هائل من الحضارات والعلوم.
لا بد وأن نعدهم كي يكونوا جاذبين لا مشدودين للوراء بذريعة عدم التأثر بالغرب أو بالحضارات الأخرى نربيهم على أن يكونوا مسموعين مقدرين تُحترم آراؤهم وقدراتهم مهما كان ما يقدمون بادياً لنا على أنه شيء تافه وقليل يعرضون ثقافتنا وتعاليم ديننا بطرق جديدة غير مألوفة لغيرنا انتقاء الشباب من أصحاب الكاريزما وقوة الحضور والشخصية والإيمان بالقضايا المجتمعية العربية والإسلامية والفاهمين الجيدين لمقومات المجتمعات التي سوف يتوجهون بالحديث إليها بصورة غير مباشرة تحمل مقومات جذب.
أما عن الشباب والأبناء الذين يحتاجون داخل مجتمعاتهم للقدوة فلا بد أن يعد الوالدان أنفسهما جيداً كي يكونوا على قدر المسؤولية أمامهم ربما لا يمتلكان الكاريزما ولكن من الممكن أن يمتلكا الصدق في المشاعر وحسن المعاملة ومحاولة جعلهم أصدقاء كباراً ولا بد أن يكونا واعيَين جيدين لفكرة أن وسائل التواصل وضعت الأبناء في خانات الكبار مبكراً الكبار الذين لا يقبلون إلا أن يعاملوا معاملة الند بالند، العقل بالعقل، الفكر مقابل الفكر، والأقدر على الإقناع.
أظن أن المسؤولية أصبحت أكثر تعقيداً على الوالدين من فكرة تأمين الملبس والمأكل ومصروفات الدراسة إلى العودة للتعلم من جديد كيفية معاملة أبناء اليوم الذين ولدوا بإصدار جديد غير ما عرفوه هم وما جبلوا وتربوا عليه إن أرادوا أن يكونوا أصحاب حضور قوي مؤثر في حياة الأبناء حضوراً ساطعاً ينير لهم الطريق وليس كالضباب يتسلل من بينه ضوء خافت مضلل لا يهدي إلى الطريق الصحيح.