د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كان الصبيُّ ذو الحادية عشرة من عمره يرافقُ والده رحمه الله بسيارته فقرأ لوحةً جداريةً مستترةً عن الشارع العام مكتوبًا فيها: (الدنيا ساعة فاجعلها طاعة)، وعلا صوتُه بها قليلًا، فعلق - غفر الله له - بما يؤيدُها، وظلّت وما تزال في ذهنه وقلبه، ويدعو الله أن تشمل جوارحَه، معنونةً نظرته للدنيا، وإن لم يزهدْ بها، وللآخرة وإن لم يعملْ لها، راجيًا رحمةَ ربه.
** يومان لا نعرفُهما فيبقيان دون ذاكرةٍ وإن انتهيا بذكرى، والفارقُ بين المعرفة والتذكر كالفارق بين ولادةٍ لا نعيها ووفاةٍ لن نعلمَها، أو كالمسافة داخل حياةٍ تطولُ وتقصرُ فنلخصها بصفحةٍ أو كتاب، وقد نزهو ببعضها ونختفي من بعضها، ونعي تفاصيلَها؛ مشرقةً كانت أم معتمة.
** لم نسمع الصرخةَ الأولى ولا ندري عن النَّفَس الأخير، وهما أهمُّ حدَثين في أعمارنا، وقد لا يبقى سواهما في سجلاتنا، أما ما بينهما فسواءٌ أوثَّقناها أم أهملناها فهي مرصودةٌ ببياناتٍ سترتحلُ قبلنا لنواجهَها وحدنا، ومهما رآنا غيرُنا بعيون الرضا أو السخط فلن تنفعَ ولن تضُرّ.
** منطقٌ ندركُه فلا نُحرّكه من إطاره النظريِّ إلى العمليّ، ولو فعلنا فسنُدهشُ من كمِّ التبدلات التي تطالُ الحياةَ والأحياء، وفي نظريات «إيمانويل كانت 1804-1724م» ما يؤكدُ أهمية «تغليب المفروض على الرغبة»، سواءٌ أتمت بإملاءٍ أم نبعت من الذات في إطار تجديد معاني الوجود المتجه نحو الإيمان بالمطلق.
** لا يتأتَّى التوازنُ بين متطلبات الحق ونوازع الخلق إلا لمن استطاعَ المواءمةَ بين داخله المتطبّب وخارجه المتطلِّب، وربما ينجو بفعلٍ ويخفق بآخر، ويتواصلُ الصراعُ بين النفسين: الأمّارة واللوامة، وهو مسارٌ طبيعيٌ، أما غيرُ الطبيعيِّ فحين ينعدمُ التوازنُ فتحكم إحدى النفسين وتتحكم؛ فاللوامةُ لن تدعَه يعيش، والأمَّارةُ ستجعله يعشى، وفي التأريخ عبر.
** تتشابهُ الأزمنةُ عندما تتشابهُ المعطياتُ والمتغيرات، ويبدو أن ثمةَ قواسمَ مشتركةً بين القرون: الرابعَ عشرَ والخامسَ عشر، والرابع والخامس «الهجرية» من حيث كمُّ المضادات والمتناقضات؛ فقد برزت فيها مظاهرُ الطاعة والمعصية، والاعتدال والانحراف، والزهد والمجون، وبدا الناسُ بين تطرفين، وكذا تلد الحروبُ والأزماتُ في العالَمِ موجاتِ تدينٍ وإلحادٍ متزامنةٍ كما حصل بعد الحربين العالميتين ونكبات العرب، ولا يقلُّ الترفُ والاسترخاءُ تأثيرًا في هذه الحدّية، ولعلَّ مؤرخي الأدب ودارسي الاجتماع يقرؤون المشاهدَ المتقاربةَ فربما قادتهم إلى ما يشبهُ نظرية أرنولد توينبي 1975-1889م: (التحدي والاستجابة) ذات المدلولات الثقافيّة والتربويّة والتنمويّة، وإذ لا معنى للنظرية المجردة فلعلَّها تقودُ إلى غدٍ أجمل.
** يُروى عن التابعيِّ الزاهد مالك بن دينار «المتوفَّى في القرن الثاني الهجريِّ» نفيُه الزهدَ عن نفسه ونسبتُه إلى الخليفة العظيم عمر بن عبد العزيز؛ «فهو الذي أتته الدنيا فتركها»، ولا عبرةَ بمن لم يُختبرْ، وبذا يتجلى الفرقُ بين الوعظ والممارسة لمن يجدُ ويجدُّ لا لمن يُحاضرُ ويُناظر.
** العمرُ تأمل.