نبيل موميد
عرف التاريخ المعاصر للمملكة العربية السعودية مجموعة من العلامات البارزة التي كان لها دور محوري في تأسيس الدولة الحداثية المنفتحة على محيطها، والمحافظة في ذات الآن على مقومات هويتها العربية والإسلامية. ولعل من أبرز هذه الوجوه، ممن ترك بصمته في كل المجالات؛ من سياسة، ودبلوماسية، ورياضة، وثقافة، وأعمال إنسانية، وبناء... المرحوم سمو الأمير «فيصل بن فهد بن عبد العزيز» (1946 - 1999) الرئيس الأسبق للرئاسة العامة لرعاية الشباب.
وبالنظر إلى ضخامة مُنجزِ الأمير، فسنقتصر في سياق هذه الموضوع على الحديث عن بعض المنارات البارزة التي تركها في المجال الثقافي السعودي؛ حيث إنها ألقت - ولا تزال - بنورها وتبث إشعاعها عاليا متجاوزا حدود المملكة ليعانق العالم ككل.
من منطلق وعي سمو الأمير «فيصل بن فهد» - رحمه الله - بمحورية إدماج الثقافة بمفهومها الشامل في تكوين شباب المملكة، وجعلها تقليدا يوميا وليس تَرَفا نُخْبوِيا، وبالنظر إلى إيمانه العميق أن إعداد رجال الغد ينبني على النظر إليهم نظرة كلية شمولية غير تجزيئية تربط الإعداد البدني بالتكوين المعرفي العقلي، أوْلى - رحمه الله - للشأن الثقافي أهمية كبرى، ولاسيما أن إشرافه عليه يشي بوعيه بأهمية المعرفة التي تُحاكي عقل الشباب، وليس بتلك التي تحاكي ذاكراتهم؛ أي أن المعرفة الثقافية في شموليتها يجب أن تركز على إعداد شباب قادرين على أعمال عقولهم، وتوظيف أذهانهم في خدمة وطنهم ودينهم، ولِمَ لا استنباط نظريات جديدة، وإبداع معارف من شأنها الرقي بالمجتمع إلى آفاق عالية، وليس على مجرد استظهار الكتب، والتشدق بالنظريات التي لا يتوفرون على الآليات الضرورية والعدة المنهجية اللازمة من أجل التعامل معها، واستخلاص ما قد يعود بالنفع على الوطن منها.
في هذا السياق المشبع بطموح غير محدود في مستقبل سعودي مشرق على المستوى الثقافي، انطلق الأمير من خلال خطة عمل واضحة المعالم وثابة الركائز في وضع اللبنات الأولى للمجال، مركزا في البداية على إحداث عدد من الأندية الأدبية التي كانت بإجماع كل المهتمين بالمجال قاطرة للتنمية الثقافية، وجسرا أمَّن عبور شباب المملكة نحو سماء الإبداع والتميُّز الفني.
من هذا المنطلق، قال سمو الأمير - رحمه الله - في حوار أجراه معه الباحث «جهاد فاضل»: «في ظل الخطة الشاملة للرئاسة العامة لرعاية الشباب في المملكة العربية السعودية، ومن منطلق رعاية العقول ونشر الأدب وفنونه في ربوع المملكة بصورة دائمة ومدعومة من الحكومة الرشيدة، بشكل يضمن لها أداء رسالتها الفكرية دون عوائق أو عقبات... من هنا بزغت فكرة الأندية الأدبية لتكون منتديات فيها الفكر، وملتقيات تتحاور فيها العقول بنهج يضمن للفكر سلامته، ويوفر للمفكرين تواصلاً مستمرا مع جمهور الثقافة والفكر، في ظل واقٍ من تعاليم شريعتنا الغرَّاء» (جهاد فاضل، الأدب والأندية الأدبية في المملكة العربية السعودية تقديم: عبد الله بن محمد الشهيل، دار الجديد، ط 1، 1998).
وفي هذه الكلمة على إيجازها، تتجسد روح الاهتمام بهذه الأندية وفلسفة إحداثها؛ فهي حسب الأمير - رحمه الله - ليست مؤسسات شكلية أو صورية، بل هي صمام أمان لشباب المملكة، وصون لهم وحفظ من آفات العصر؛ وذلك من خلال توجيههم نحو ما قد يُسهم في قدح زناد المعرفة لديهم، واكتشاف مكامن الإبداع في ذواتهم، في توافق تام مع الشريعة الإسلامية.
لقد كانت نظرة الأمير تصدر عن فلسفة ترى أن الاستثمار في شباب الأمة الآن، ستكون نتائجه واعدة ومُبشِّرة بالخير في المدى المنظور؛ وهذا لعمري دليل على نظرة الأمير الثاقبة، وبُعد نظره، بل على خوضه غمار الاهتمام بمجالات قلَّما فكَّر غيره في الاهتمام بها ظنا منهم أنها ثانوية أو بدون أهمية تذكر.
وكانت المملكة سبَّاقة بفضل بُعد نظر الأمير «فيصل» - رحمه الله - إلى تأسيس هذه الأندية في الوطن العربي؛ حيث بمجرد ما اقترحت عليه الفكرة، دعا سنة 1975 إلى اجتماع مع عدد من الأدباء والمفكرين من مختلف مناطق المملكة، حوى نقطة وحيدة في جدول الأعمال؛ وهي تباحث السبل الكفيلة ببعث القطاع الثقافي، وخلق دينامية في الأوساط الأدبية والفكرية السعودية من خلال فكرة مبتكرة؛ ألا وهي إحياء «سوق عكاظ»، فأفضى التباحث حول هذه الفكرة، ومجمل النقاشات التي دارت في فلكها إلى تأسيس أندية أدبية تغطي مختلف جهات المملكة.
وقد تعهد - رحمه الله - هذه الأندية بالرعاية، والإشراف، والتمويل، والمتابعة إيمانا منه - بفضل فكره الاستشرافي ونظرته الثاقبة - بدورها المحوري في بعث الروح في الحياة الثقافية الوطنية، وحثِّ الشباب على المساهمة في الشأن الثقافي والإدلاء فيه بدلوهم، وما لذلك من دور مهم في تهذيب النفوس، وإصلاح السلوك، هذا بالإضافة إلى دورها في إشعاع المملكة إقليميا، وعربيا، وإسلاميا في مجال كان إلى فترة قريبة حكرا على عدد محدود من الدول العربية الإسلامية في المشرق العربي. وقد تحقق هذا الهدف من خلال آلاف الإصدارات (بين كتب، ومجلات، ودوريات... تناولت مختلف المجالات الثقافية والفكرية)، والعديد من المهرجانات الثقافية، والتظاهرات الأدبية، والندوات العلمية...
ومن منطلق اهتمامه بالأدب والأدباء، والعمل الثقافي بصفة عامة، أشرف سموه - رحمه الله - على رئاسة اللجنة العليا لجائزة الدولة التقديرية في الآداب بالمملكة العربية السعودية بعد إحداثها سنة 1983؛ بوصفها أرفع جائزة بالمملكة، تُمنح لرجال الأدب والثقافة ممن تفردت أعمالهم وتميزت.
وقد حرص الأمير - رحمه الله - على أن تكون هذه الجائزة في نفس الوقت مناسبة لتكريم التفوق، ودعوة لمن لم يحصل عليها لكي يبذل المزيد من الجهد حتى يكون في مستواها، وبالتالي خَلْقِ جوٍّ صحي جميل من التنافس الفكري والأدبي. وبالنظر إلى حسن تخطيط سمو المرحوم وتفكيره في الجانب الاجتماعي المعيشي للمثقفين، وجَّه بصرف قيمة الجائزة البالغ مقدارها مائة ألف ريال سعودي (حوالي 27000 دولار أمريكي) للفائزين ليس فقط في حفل تتويجهم، بل تصرف لهم الجائزة بشكل سنوي طيلة حياتهم، ولا تنقطع إلا بمماتهم؛ ولا يخفى على أحد أن هذا الكرم نحو المشتغلين في المجال الثقافي غير مسبوق على الإطلاق.
ولا ننسى أنه بفضل جهود سمو الأمير - رحمه الله - واهتمامه بالشأن الثقافي سعى رفقة وزراء الثقافة العرب، بالإضافة إلى منظمة اليونسكو، إلى ترسيخ تقليد الاحتفاء السنوي بعاصمة عربية معينة باعتبارها عاصمة للثقافة العربية، وما يستتبع ذلك من أنشطة، وملتقيات، ومهرجانات ثقافية تجعل من المدينة المختارة رمزا ثقافيا وشعلة فكرية، ليس داخل حدود البلد وحسب، بل في العالم العربي بأكمله.
ولا تكاد تمر مناسبة من مناسبات تنصيب عاصمة عربية ما عاصمة للثقافة دون استحضار ما قام به؛ سواء في الأوساط الرسمية، أو من خلال مختلف وسائل الإعلام. وقد كانت سنة 2000 التي صادفت اختيار مدينة الرياض عاصمة للثقافة العربية مناسِبة أكثر من غيرها لرد الجميل لسمو الأمير، وتثمين جهوده التي أثمرت مثل تلك الثمار المباركة.
ولم يقف اهتمام سمو الأمير بالشأن الثقافي عند هذا الحد، بل إنه انطلق بخطى حثيثة في إقامة المسابقات الثقافية والأدبية والفنية، ودفع إلى تأسيس مهرجانات للشعر والقصة، ومسابقات القرآن الكريم... وذلك على مدار العام، حتى إن إشعاع المملكة الثقافي تجاوز حدودها الجغرافية ليلقي بنوره على باقي دول الخليج، ومجمل الدول العربية والإسلامية.
ولا يليق في هذا المقام إلا أن نشير إلى الرعاية الكبيرة التي خص بها سمو الأمير الفن والفنانين؛ حيث إنه رعى النشاطات الفنية، والمهرجانات والمعارض الوطنية، وسهر على الاهتمام بالفنان السعودي. كما كان صاحب المبادرة الأولى في إطلاق مسيرة الفنون التشكيلية السعودية، من خلال العديد من المهرجانات والمعارض؛ ومن أبرزها على سبيل المثال مسابقة السعفة الذهبية، ومعرض فناني مجلس التعاون الخليجي، ومعرض المراسم، ومعرض الفن السعودي المعاصر وغيرها مما يضيق المجال عن حصره. وبالنظر إلى إدراك سموه - رحمه الله - أهمية الفن في صيانة الذاكرة المحلية، والتعريف بثقافة الأجداد، أَوْلى عنايته بالفنون الشعبية، من خلال إنشائه لإدارة خاصة بالفنون الشعبية، اهتمت بمجمل النِّتاج الثقافي الشعبي السعودي؛ من أغانٍ، وأهازيج، وفلكلور شعبي... وقد ألحق سمو الأمير بهذه الإدارة متحفا شعبيا، ومكتبة موسيقية، وتسجيلات لمختلف الفنون الشعبية السعودية (ينظر حول هذا الموضوع مقال: وفاة سمو الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز الرئيس العام لرعاية الشباب، مجلة الفيصل، رجب 1420 هـ/ أكتوبر - نوفمبر 1999، العدد 277، ص: 130 - 131)؛ وهذا إنما يدل على وطنية الأمير الطاغية، وغيرته على مقومات بلده، وحرصه على المحافظة عليها من الضياع، وإعادة إحيائها حتى تكون جزءا من التنشئة الاجتماعية للشباب السعودي، وحتى تحتل مكانتها ضمن الهوية الوطنية السعودية؛ باعتبارها رافدا مهما من روافد الانتماء الوطني. بل إن اهتمامه بهذا المجال تجاوز السياق الوطني والإقليمي، ليصل صداه إلى العالم؛ حيث نُصِّب رئيسا فخريا للمنظمة الدولية للفن الشعبي في النمسا.
لم يكن اهتمام سمو الأمير - رحمه الله - بالمجال الثقافي نابعا فقط من موقعه بوصفه المسؤول الأول عن رعاية شباب المملكة، بل إنه كان مهتماً اهتماماً شخصياً بالثقافة في مفهومها الواسع؛ من فنون وآداب وعلوم.. متابعا للمنجز المحلي، ومنفتحا على التحولات الثقافية الخارجية، تساعده في ذلك ثقافته الراسخة مزدوجة اللغة (العربية والإنجليزية)، التي حافظ من خلالها على مقومات هويته العربية الإسلامية، وانفتح في ذات الوقت على الآداب الغربية وفنونها لتتشكل شخصية على درجة كبيرة من الخصوصية والتميز. وقد أوضح الكاتب والإعلامي السعودي «حمد بن عبد الله القاضي» أن الاستاذ «منصور الخضيري» أخبره أنه عندما كان يجلس في مجلس سموه - رحمه الله - «يفاجأ وغيره بإحاطة ومتابعة سموه لكل كتاب يصدر، ولكل قضية ثقافية، وهو يتحدث ويحاور فيها حوار المثقف والواعي»، وليس حوار المجامِل أو خالي الذهن من موضوع النقاش. ولطالما انبهر ضيوف المملكة الذين أتيحت لهم فرصة الالتقاء بسموه - رحمه الله - سواء من مستواه الثقافي الراقي، أو من إحاطته بكل بالمستجدات الأدبية والفنية العربية والعالمية، أو من فصاحته وتمكنه من فنون البلاغة وألوان الخطاب؛ وذلك من خلال مختلف الكلمات التي كان سموه يلقيها، إنْ ارتجالاً وإنْ بعد إعدادها.
** **
- (أستاذ مبرز في اللغة العربية - المملكة المغربية)