محمد سليمان العنقري
لا خبر يسبق الحدث الأهم والأبرز في وسائل الإعلام وحراك السياسيين في أوروبا وأميركا وروسيا إلا ملف الأزمة الكبرى بين روسيا وجارتها أوكرانيا فأغلب المراقبين يتوقعون غزواً روسياً لأوكرانيا بحسب حجم التحرك العسكري الروسي على حدود أوكرانيا الذي وصل إلى 130 ألف جندي مدججين بأحدث ما صنعته روسيا من الأسلحة وأيضاً ما يصدر من تصريحات عن دول الناتو بأن الغزو قريب حيث بدؤوا الإعلان عن نيتهم البدء بسحب بعض موظفي سفاراتهم وعائلات الدبلوماسيين أيضاً كما قامت بعض دول الناتو بإرسال شحنات من الأسلحة لأوكرانيا لتعزيز قدراتها الدفاعية مع التعهد بفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا من الاتحاد الأوروبي وأميركا وبعض الدول المتحالفة مع الكتلة الاقتصادية الأكبر بالعالم وذات الثقل السياسي والاقتصادي والعسكري فما يبدو من المشهد الحالي أن الأزمة تتجه لمزيد من التصعيد ما لم يتم التوصل لحل مرض لطرفي الأزمة ينزع فتيل الحرب.. إلا أن ما ينظر له بالتزامن مع المخاطر المترتبة عن هذه الحرب لو اندلعت من دمار وضحايا محتملين من المدنيين هو الأثر الاقتصادي على أوروبا والعالم فكما يتوقع أن تحدث تداعيات سلبية على اقتصاد روسيا من خلال العقوبات التي يتوعد بها دول الناتو فإن أي خلل بانقطاع إمدادات الغاز الروسي لدول أوروبية وأيضاً النفط بما أنها من أكبر المنتجين العالميين للطاقة سيكون له أثر سلبي بارتفاع أسعار الطاقة وبالتالي التضخم في أوروبا والعالم عموماً بخلاف ما قد ينجم عنه من نقص بإمدادات الحبوب فروسيا وأوكرانيا من أكبر المنتجين والمصدرين لها هذا بخلاف مخاطر أن تتوسع هذه الحرب وأن تخرج عن السيطرة لتدخل بها دول أوروبية مباشرة مما يعني تدخل حلف الناتو أي نشوب حرب عالمية ثالثة جديدة لا سمح الله مما سيكون له أثر كبير بدمار اجتماعي واقتصادي ضخم في القارة العجوز ويهدد مستقبل الحضارة البشرية وينسف ما حققته من تقدم صناعي وازدهار اقتصادي عموماً ويخلف ملايين القتلى هذا السيناريو الكارثي رغم أن احتمالية حدوثه تبدو شبه معدومة لكن في الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت البدايات نزاعات محدودة ثم توسعت إلا أن وجود هذه التصورات لدى كلا الطرفين بمخاطر نشوب حرب لا بد أن تطرح تساؤلاً هل الهدف ملف أزمة بين دولتين على رغبة روسيا بحماية أمنها القومي من خلال مطالبها بمنع ضم أوكرانيا لحلف الناتو والتعهد بذلك من دول الحلف مع تعهدخر بمنع نشر أي أسلحة للحلف في أوكرانيا أو أي دولة حدودية مع روسيا؟
فمثل هذه المطالب محقة لأن الأساس هو أن الأمن للجميع ويجب وضع حل يرضي ويناسب ويحقق مصالح كل الأطراف لكن بالنظر للمدى المتوسط والبعيد لا بد من أن هناك أهدافاً أعمق بكثير قد تكون هي أساس كل هذا الاشتعال لهذه الأزمة المتجددة لكنها وصلت لأدق مراحلها حالياً فروسيا وريث الاتحاد السوفييتي يبدو أنها استفاقت من صدمة انهيار الاتحاد قبل 31 عاماً وبدأت تنهض باتجاه أن تبني تحالفاً جديداً مبنياً على أسس ومقومات مختلفة عن شكل الاتحاد السابق ليكون كونفيدرالياً ونداً للاتحاد الأوروبي ولأميركا وحتى للصين اقتصادياً وأيضاً نداً لحلف الناتو عسكرياً فحسب محللين غربيين فإن لروسيا طموحاً بقيام اتحاد للدول التي ولدت مع تفكك الاتحاد السوفييتي وكذلك دول أوروبا الشرقية التي كانت متحالفة معه إلا أنها حالياً تميل للاتحاد الأوروبي وانضم بعضها بالفعل له وأيضاً انحازوا لحلف الناتو فروسيا قوة عسكرية عظمى بالعالم وتملك تأثيراً ضخماً بإمدادات الطاقة لكنها مازال اقتصادها صغيراً قياساً بتاريخها وحجمها الجغرافي وعدد سكانها فناتجها الإجمالي حوالي 1،5 تريليون دولار وهو ما يعادل حوالي 9 بالمائة من الناتج الإجمالي للاتحاد الأوروبي وقرابة 6 بالمائة من الناتج الإجمالي لأميركا أي أن روسيا دولة أمامها تحديات وفرص كبيرة لترفع من تأثيرها الاقتصادي دولياً فهي بكل تأكيد تملك مقومات عديدة لتحقق نهضة اقتصادية في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات وهو ما تسعى له حالياً من خلال إعادة بناء لدورها الدولي من جديد في الشق الاقتصادي فما نشهده اليوم من حراك بين هذه القوى الكبرى هو ما سيؤسس في بحر الأعوام العشرة القادمة لأقطاب القوى الاقتصادية الكبرى بالعالم.
قد ينظر إلى تركة الاتحاد السوفييتي أنها لم تستكمل هيكلتها بعد لكن من الواضح أن هذا الكيان الذي تفكك واعتبره الرئيس بوتين أكبر كارثة بالقرن الماضي يحاول هو إحياءه بمقومات جديدة وبناء اقتصادي منافس عالمياً من خلال تحالفات جديدة على أسس مصلحية مختلفة تبدأ بتحقيق الأمن للجميع بالقارة الأوروبية بينما ينظر الغرب إلى روسيا بتباين ما بين من يراها خطراً عليه ومن يراها شريكاً مهماً فهل تنجح روسيا في بناء قوة اقتصادية منافسة وتكتل ضخم يدعم هذا الهدف مستفيدة من إمكانياتها الضخمة غير المستغلة فالأزمة ليست محصورة بملف أوكرانيا بل بما ستكون عليه أوزان ومراتب القوى الاقتصادية العالمية بالمستقبل والتي تسعى روسيا لأن يكون لها مكان قيادي بينهم.