للعلماء في ملة الإسلام مكانة عظيمة، وفضل لا يخفى، هم منابر يهتدى بهم، ومدارس في التربية والسلوك وفي المعرفة والتعليم، رسالتهم ربانية (العلماء ورثة الأنبياء) يحفظون الدين، ويأخذون بمركب المجتمع إلى كل جميل؛ فقدهم ثلمة في الدين، ورزية على المسلمين، ونقص للعلم كما في الحديث.
ومن هؤلاء الأعلام الربانيين سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان -رحمه الله-، شيخ القضاة، وحامي السياج القضائي، الذي وافاه الأجل فارتحل ذلك الجبل.
وما كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِد
وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
فعرفاناً بحقه وقد عرفناه عالماً، وألِفناه أباً ناصحاً، أُزجي بعضاً من عبيره محبةً ودعاءً لمن بذل عمره خدمة للإسلام وأهله.
مولده ونشأته
هو العالم الجليل، والمعلم القدير، والقاضي المحكم، والخطيب المصقع، والداعية المؤثر. الشيخ صالح بن محمد اللحيدان؛ ولد في البكيرية بمنطقة القصيم عام 1350 هـ.
نشأ في بيئة علم وفضل، وتقى وصلاح، مما أثر في نشأته العلمية.
كانت بدايته الإقبال على تعلم القرآن والتجويد على يد العالم الزاهد عبد الرحمن الكريديس رحمه الله، فلما اتقن كتاب الله حفظاً وتجويدًا عزم على الرحيل لنيل العلم فسافر إلى الرياض حيث مناهل العلوم المتعددة.
صفاته
كان رحمه الله على درجة عالية من الأخلاق والصفات الحسنة، فاجتمع له حسن المظهر وطيب المخبر.
فمن صفاته الجسمية: طويل القامة، أبيض البشرة، نحيف الجسم، متوسط شعر الوجه، سريع الخطى. قيل للقاضي إياس بن معاوية: إنك سريع المشية، قال: (ذلك أبعد عن الكِبْر، وأقضى للحاجة) حسن الملبس - المشلح - دِثاره مزركش من خلفه وأمامه.
من أخلاقه
امتاز رحمه الله بأخلاق كثيرة قلما يتصف بها إلا من جمع الله له علماً وحكمة ففي نورهما يُهتدى، ويجتنب الرَدى.
وهبه الله رجاحة العقل، فأكتسب قوة الشخصية والرزانة، الأناة نبراس له، غير متسرع عند النوائب، ثابت الرأي، قوي الحجة والعزيمة، بعيد النظر.
ثبات وصبر واستقامة موقف
بغير تخلٍ واتجاه مفنّد
لا يتردد في إبداء الرأي متى ما رأى الصواب حليفه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.
وقلتَ الحق لا تخشى ملاماً
ولا تحني لغير الله صدرًا
عرف عنه تواضعه وسماحة النفس، نقي القلب ليس للضغينة مكان في قلبه، لا ينتقم ممن آذاه (إنه العفو مع المقدرة) ومن شيم الرجال.
هذه قوة التحمل وجميل الصبر، كان حريصاً على نفع الناس، والشفاعة لهم، يبذلها للقريب والبعيد، فقد حباه الله مكانةً مرموقة لدى الناس وولاة أمر هذه البلاد، وإنك لتعجب من عدم تضجره من أهل الحاجات وتعدد الشفاعات، بل زادته عزاً، ورفعته ذكرًا، محتسباً لا مكتسباً، كم أدخل سروراً وفرحاً على بيوت الناس.
يصدق عليه قول الشاعر زياد بن سلمى:
سألناه الجزيلَ فما تلَكَّا
وأعطى فوق مُنْيَتِنا وزادا
وأحسَنَ ثمّ أحسَنَ ثمّ عُدنا
فأحسَنَ، ثمّ عاوَدْنا فعادا
مِرارًا لا أعود إليه إلا
تبسّم ضاحكا، وثنى الوِسادا
ومن أخلاقه يحب أهل العلم والصلاح وطلبة العلم ويهتم بشأنهم، إنها أخلاق الكبار، ولا يتوانى عن نصرة الشأن الإسلامي عموماً، ويحرص رحمه الله على اجتماع الكلمة والألفة ووحدة صف الأمة، ويحذر مما يضاد ذلك من الشقاق والنزاع ليبقى كيان الأمة في عزة وقوة.
حياته العلمية
بعد أن أتقن الشيخ حفظ كتاب الله وتجويده في بلدته كانت الرياض مقصده لإكمال تعليمه، إذ كانت الرياض مرتعا خصبا لحلق العلم وتوفر العلماء، ومثل هذه الأجواء العلمية مشجعة لطالب العلم، فنال الشيخ من كبار العلماء الحظ الأوفر.
وحينما قدم إلى الرياض مع رفقته وكانوا شبيبة، أرادوا التقدم بطلب إلى رائد العلم والعلماء آن ذاك، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فكأنهم هابوا ذلك لعظم منزلته رحمه الله، فتقدم الشيخ صالح وطلب من ابن إبراهيم رغبته وزملائه الدراسة في المعهد العلمي في الرياض حينما كان رئيس المعاهد، فأجازه لما رأى فيه الجرأة والنباهة وجودة العبارة، فكأن الشيخ ابن إبراهيم تفرّس فيه علو الهمة وصدق المبدأ وكان ما كان ذا شأن.
وبعد استكمال دراسته بمعهد الرياض التحق في كلية الشريعة بالرياض وتخرج عام 1379 هـ، ثم درس الماجستير في المعهد العالي للقضاء وتخرج منه عام 1389هـ، وكان عنوان رسالته (الإقرار في الشريعة الإسلامية).
ومع هذا كان يطلب العلم على المشائخ هناك، منهم:
1- الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي عام المملكة في زمانه رحمه الله.
2- الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز مفتي المملكة في زمانه رحمه الله.
3- الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي صاحب تفسير أضواء البيان رحمه الله.
4- الشيخ عبد الرزاق عفيفي نائب مفتي المملكة رحمه الله.
وبهذا اجتمع له حسن السمت ووافر العلم اقتداءً بمشائخه. قال الإمام مالك رحمه الله: (كانت أمي تعممني وتقول لي: (اذهب إلى ربيعة -شيخه- فتعلَّم من أدبه قبل عِلمه).
أعماله
امتلك الشيخ رحمه الله سيرة ذاتية مرموقة مليئة بالمناصب القيادية في ميدان القضاء، سيرة جعلته من أبرز العلماء المعروفين؛ فإلى شيء من أعماله التي تسنّم قيادتها:
1 - عمل سكرتيراً لسماحة مفتي عام المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم، وذلك بعد تخرجه من كلية الشريعة عام 1379هـ.
2 - عُين مساعد لرئيس المحكمة الكبرى بالرياض عام 1383هـ.
3 - عُين رئيسا للمحكمة الكبرى بالرياض عام 1384هـ.
4 - عُين قاضي تمييز، وعضوًا للهيئة القضائية العليا عام 1390هـ.
5 - عُين رئيساً للهيئة الدائمة لمجلس القضاء الأعلى عام 1402 هـ.
6 - وفي عام 1413 هـ عُين رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء.
إنها خدمة قضائية بارزة تجاوزت خمسين عاماً يترقى في مفاصل القضاء، قيادةً وحكمةً وحنكة، إنه كان مقصد المشاورات القضائية، وإبداء الآراء في المهمات، لا يتوانى بالنصح والتسديد، إنه بحق رمز القضاء.
رعى القضاء بهمة مشبوبة
ما رام غير العدل والإنصاف
7- عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1391هـ حتى وفاته.
8 - تم تكليفه بالفتيا بالحرم عام 1380 هـ.
9 - كُلف بإلقاء خطبة الحجيج عام 1399هـ في مسجد نمِرة بعرفة فارتجل خطبته بصوت ندي ومعنى وفي.
مناشطه الدعوية
إضافة لأعماله الثابتة له مشاركات متعددة في ميدان الدعوة والإفتاء والتدريس، ففي الرياض كان يلقي دروسا ومواعظ في مساجده، وله دروس بالمسجد الحرام. وله فتاوى دائمة في البرنامج الشهير نور على الدرب، ومحاضرات وندوات متنوعة.
وكان أحد المشاركين في المناقشات العلمية في رسائل الماجستير والدكتوراه بالجامعات.
أضاء بالإفتاء ليل مشاكلٍ
بالعلم والرأي السديد الوافي
ويقول الشيخ: (موطأ مالك وصحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وترتيب مسند الإمام للساعاتي، كل هذه الكتب العظيمة المهمة قرأتها على الناس بالمسجد إماماً وتكلمت عن معانيها).
وكان منهجه التركيز على العقيدة الصحيحة المستقاة من الكتاب والسنة، لإدراكه أثرها البالغ على حياة المسلم وسلوكه وعلاقته بربه ومع الناس فكان قدوة.
قال الشيخ رحمه الله: (نحن ما أعزنا الله بأموال طائلة، ولا جيوش جرِارة، إنما نعتز بالعقيدة وصفائها). عن بعض السلف: (من علِم وعمِل وعلّم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء).
سيرته في العمل
الحرص المتناهي لكسب الوقت، والاستفادة من الزمن، لا يشغله عن عمله شاغل، ولا يؤخر عمل اليوم إلى الغد، يستغرق وقته في تصريف الأعمال، والنظر في القضايا والمعاملات بروح عالية، وعقل وحكمة، منذ الصباح الباكر، على كرسي القضاء.
يتحرى الحق فيما يعرض له لا يفشي سراً، ولا يكتم حقاً، يرقب الله، ويستشعر عظم المسؤولية.
عفافٌ وإنصاف وحزم وهيبة
وحكمة رأيي في الأمور مسدد
يقول الشيخ رحمه الله: (وفي حياتي لم أكن أتمتع في إجازة طيلة حياتي الماضية إلا شهراً واحداً، كما لم أكن أتمتع بإجازات خاصة).
بِصَنِيعِهْ قدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ولو كانت على حساب راحته وصحته.
إنه يحافظ على مركب القضاء ويثبت أركانه وقواعده ويرسم خططه ومستقبله، فبقي شامخاً ما بقي. هو بهذا يرسم قدوة يهتدي بها كل موفق.
تألهه وعبادته
كان رحمه الله ذو صلاح وتقوى وورع، تالياً لكتاب الله، دائم التهجد والذكر، والصدقة، والدعاء للعامة والخاصة، لم يعرف عنه الصفق بالأسواق بل جلّ وقته في مرضاة الله، حتى في مرضه كان يُهادى إلى المسجد، قلبه معلق بالمساجد ولا تعجب أن تكون له خبايا أعدها لنزول الرزايا، إنها سُنة من سلف وذخر في الموقف رحمه الله رحمة واسعة.
من ثناء الشيخ صالح الفوزان حفظه الله (اللحيدان كان على ثغر عظيم وكان جبلاً نحتمي به)، شهادة حق صدرت من قلبٍ صادق مدركاً للواقع.
مكانته في القلوب
عرفته الأجيال إنه رجل المهمات والمواقف يقصدونه ويحتمون به، إنهم يجدون صدراً رحباً، ونفساً زكية.
والناس تحب من أحسن إليها فيستميل قلوبهم، ويسيطر على مشاعرهم وحق له ذلك، كم كانت أياديه تفرج عن مكروب، وترفع مظلمة، وتيسر لمعسر. قال أبو الفتح البُستي:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وقد ساعده في إسداء المعروف وقضاء حوائج الناس ما حباه الله به من مكانة عالية عند مفتي عام المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم لما رأى فيه من حسن الرأي وسداد في المهمات فأناط به كبار المهمات، كما أنه ذو منزلة رفيعة عند ملوك المملكة، إنه عقل مدبر وحكيم متجذر وعالم منصف، نظرته للناس إيمانية.
موقفه من الظانين والمتوهمين
من لبس لباس العلم والتقوى يَرْبَى بنفسه أن يخوض مع الخائضين، وينابز الشانئين. بل يصفح ويتجاوز، فما كان شيخنا يرد على من ناله بالثلب والسلب، إنه مبدأ أهل الصدق ورواد الأمَّة؛ وكأني به ينشد:
لا تسمع الواشي ولا تُصغي له
خلق زكي هكذا العلماء
وقد قيل (من الرد عدم الرد) وإن ترجح الرد تجده رد المشفق الناصح، بعيداً عن المزايدات ونقد الذات. حينما سُئل في إحدى الصحف عمن نال من مسؤولياته قال ما قاله ابن تيمية:
لو لم تكن لي في القلوب مهابة
لم تكثر الأعداء فيّ تقدحاً
قال ابن عساكر رحمه الله: (من أطلق لسانه في العلماء بالسَّلب بلاه الله قبل موته بموت القلب). تساقطت تلك الشهب وبقي الشيخ رحمه الله نجماً لامعًا يستضاء به وبعد موته ذكراً حسناً. (وتركنا عليه في الآخرين) ومن شهد جنازته عرف مكانته، اللهم اغفر له وأرحمه –آمين-.
مؤلفاته
الانشغال بالأعمال القضائية وتصريفها يأخذ حيزاً كبيراً من الوقت، فيؤثر في الجوانب الأخرى، ومع هذا لا يخلو من الإنتاج العلمي المفيد؛ ومنها:
1- فضل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
2- شرح حديث معاذ بن جبل (حق الله على عبيده).
3- شرح القواعد الأربع.
4- الإقرار في الشريعة الإسلامية -رسالة ماجستير-.
5- إيضاح الدلالة في وجوب الحذر من دعاة الضلالة.
وفاته
احتفظ الشيخ رحمه الله طيلة حياته بصحته، محافظاً على نشاطه، قائماً بأعماله، وفي عام 1442هـ أصابه مرض استمر بين الزيادة والنقص حتى وافاه أجله يوم الأربعاء 2 / 6 / 1443هـ، وقد جاوز تسعين سنة.
وكان خبر وفاته مصيبة موجعة على كثير من الناس فبفقده خسرت الأمة عالماً عاملاً مؤثراً، إنها لم تكن مصيبة أُسره بل أمّة.
حينئذ توافد الناس من كل ناحية للصلاة على الشيخ رحمه الله وقد أمّ المصلين الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي عام المملكة في جامع الراجحي بالرياض، فكانت جنازته مشهداً عظيماً حتى أن الجامع استوعب طاقته ثمانية عشر ألفا، وامتلأت الشوارع من المصلين وعظم الجميع جنازته حتى حُملت على الأصابع حباً وتعظيمًا لإمامٍ صادق عادل.
عشت وأنت أكرم كريم
ومت وأنت أعلى الناس ذكراً
ودفعت عن العقيدة كل شر
وذُدت عن الهدى ووقفت حُرّاً
وقلت الحق لا تخشى ملاماً
ولا تحني لغير الله صدراً
هذا ما أردت إيراده ليس إحصاء لفضائله وحصرها، لأن فضائل الكبار ومواقفهم لا تنتهي، فكم وارد إليه، وكم صادر عنه طول حياته إذاً كلها مواقف وذكريات.
وما سطرته رمزاً للمشاعر بفقده، والتأسف لوفاته، تغمده الله بواسع رحمته، وألهم الله الجميع الصبر والسلوان.
... ... ... ... ...
المصادر
1- كتاب حياة الشيخ محمد بن إبراهيم: تأليف الأطرم والعمار
2- تاريخ القضاء والقضاة في العهد السعودي للزهراني
3- الدرر السنية / عبد الرحمن بن قاسم
4- صحيفة الرياض العدد (14693) لقاء مع الشيخ.
5- تويتر عبد العزيز الفالح
** **
- محمد بن صالح الخزيم