أ.د.عثمان بن صالح العامر
حديث الناس هذه الأيام على الأقل في منطقتي التي أقطنها وأسكنها وأعشق ترابها وأهيم في نسماتها الباردة (حائل) جمع الصلوات، والمناداة بالصلاة في الرحال جراء البرد. ودون الدخول في أقوال الفقهاء والانتهاء للراجح منها، فإنني أستلهم من فحوى النصوص ودلالتها أن دين الإسلام المبني على التسامح والتيسير، والمراعي للظروف والأحوال جعل للمسؤولية الشخصية والعقل البشري المنبت عن الهوى مساحة في اتخاذ ما يعتقد جازماً أنه محل للإباحة والجواز، حيث (الضرورات تبيح المحظورات)، ولكن هذه الإباحة ليست على الإطلاق وبصورة دائمة، وإنما (الضرورات تقدر بقدرها). ومع أن الأصل أن يكون العالم الفقيه هو من يقدر ويفتي حسب ما يترجح لديه عقلاً إلا أن حالة جمع الصلوات، والصلاة في البيوت، موكولة لإمام المسجد هو من يقدر نسبة الضرورة وحجمها لاعتبارات عدة من بينها حال الطقس في الليالي شديدة البرودة أو حين المطر وحلول الخوف لا سمح الله، ووضع جماعة المسجد صحة وسقماً، شيخوخة وشباباً، والتدفئة داخل المسجد، وبعد البيوت أو قربها من المسجد، مما يجعله يتخذ ما يراه رافعاً للضرورة، وفي الوقت نفسه تبرأ به ذمته أمام الله، ولذلك الأصل ألا يعيب إمام على آخر، الجمع أو عدمه في ظل الظروف المناخية التي تمر بها هذه الأيام عدد من مناطق بلادي حفظها الله، مثلها مثل كثير من البلاد العربية والإسلامية. وهذا من رحمة الله بالناس ورفع الحرج عنهم والتيسير لهم في أمور عباداتهم.
يُخبِرُ نافعٌ مَولى ابنِ عمَرَ أنَّ ابنَ عُمرَ أذَّنَ في لَيْلَةٍ بارِدَةٍ بضَجْنانَ، وهو جَبلٌ بتِهامةَ بيْنه وبيْن مكَّةَ خَمسةٌ وعِشرون مِيلًا، ثُمَّ قالَ: صَلُّوا في رِحالِكُمْ، فأخْبَرَنا أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يقولُ علَى إثْرِهِ: ألا صَلُّوا في الرِّحالِ في اللَّيْلَةِ البارِدَةِ، أوِ المَطِيرَةِ في السَّفَرِ.
وظاهرُ الرِّوايةِ أنَّ هذه الرُّخصةَ مُختصَّةٌ بالسَّفرِ، وقدْ ذَكَرَ العُلماءُ أنَّ هذه الرُّخصةَ عامَّةٌ لكلِّ مَن تَلحَقُه بذلك مَشقَّةٌ في الحَضَرِ أيضًا.
إن الضرورات ليست نقطة بين حدين متوازيين، وإنما مساحة تتسع باتساع مساحة الكرة الأرضية، وتمتد باختلاف الأحوال والأزمان والأماكن وهذا دليل على صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان وحال، وتقديرها مسؤولية عظيمة تقع على متخذ القرار أياً كان، فهي ليست باباً مشرعاً لمن يهوى التنصل والتهاون ولكنها أبواب موصدة في وجه التشدد والغلو وإلحاق المشقة على العباد، وربما وجد القارئ في الفقه المقارن مسائل أفتى فيها فقيه الشام أو العراق بخلاف ما ذهب إليه فقهاء المدينة أو مصر جراء تباين أحوال الطقس واختلاف المناخ وإن لم يذكروا سبب ذلك الاختلاف صراحة فيما نقل عنهم وأثر. هذا والله أعلى وأعلم، وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وإلى لقاء والسلام.