كتب الأخ محمد بن سعود البيضاني في صفحة وراق الجزيرة بتاريخ 10 ربيع الآخر عام 1443هـ 15 نوفمبر2021م العدد 17855 مقالاً بعنوان [معسكر الإمام عبدالله بن سعود في صفينة: بين كتابات المؤرخين وتقارير العساكر ووثائق الأهالي]، وأشكر الأخ محمد على مقاله؛ فهو في مجمله جيّد، وإنْ وقع في بعضه ما يتطلّب التعليق عليه والإيضاح، وليس يخلو عمل من النقد والتعليق، وإنما غايتنا طلب الحقيقة والوصول إليها.
الوقفة الأولى
ذكر المقال ما ورد في كتاب [فصول من تاريخ حرب] للمؤرخ فائز البدراني فقال: «بعد سقوط المدينة وانتشار القوات المصرية في المناطق المحيطة بها تشتت ولاء قبائل حرب، فالواقع يحتم عليهم ألا يدخلوا مع القوات المصرية في مواجهة معروفة النتائج، بل إنهم لم يستطيعوا حتى مجرد إعلان ولائهم للسعوديين».
أقول: كان الأولى بالأخ محمد - بما أنّ المقال عن صفينة تحديداً - أن يفصّل في تحركات الإمام سعود ويحدّد الديار التي مر بها، وهو ما فصّله ابن بشر في أحداث عام 1228هـ عن السوارقية ما نصه: أن الإمام سعود «سار في الحرة ونزل على أهل بلد السوارقية فحصرهم، ونزلوا منها بالأمان على نصف الحلقة ... (إلى أن قال) فأقام عليها مدة أيام، وجمع فيها الغنايم، وباعها وقسمها على المسلمين للراجل سهم وللفارس سهمان».
الوقفة الثانية
جاء في المقال: «أما الإمام عبدالله بن سعود فإنه يرى في حياد تلك القبائل ارتداداً عن البيعة مما جعله يشن عليهم الغارات التأديبية، يقول المؤرخ عثمان بن بشر عن حوادث سنة 1229هـ: «وفيها سار عبدالله بن سعود رحمه الله بجميع المسلمين من أهل نجد الحاضرة والبادية خرج من الدرعية أول السنة فاجتمع عليه جميع النواحي وقصد الحجاز وذلك قبيل وفاة أبيه سعود رحمه الله تعالى ومعه علي ابن الشيخ محمد -رحمه الله- فأغار على بوادي حرب وهم في الحرة قرب صفينة المعروفة في تلك الناحية».
أما نصّ ابن بشر فهو: «فأغار على بوادي حرب وهم في الحرة قرب صفينة القرية المعروفة في تلك الناحية فأخذ عليهم إبلاً وغنماً كثيرةً، ونزل بالغنائم صفينة وقفل منها»، فالنصُّ يشير إلى أنّ الغارة لم تكن على صفينة - القرية المعروفة - وإنما على بوادي حرب في الحرة القريبة منها، ثم نزل في صفينة وقفل منها. والحرة امتداد واسع جداً، من جنوب المدينة إلى حدود مكة المكرمة، والمقصود بالحرة - في هذا الخبر - غرب صفينة حتى حدود وادي الفرع.
وقد تابَعَ البيضاني في هذا الخطأ ما سَبَقَه إليه المؤرخ فايز البدراني إذ جَعَل لها عنواناً [وقعة صفينة بين عبدالله بن سعود وحرب سنة 1229هـ]! وهذا العنوان مخالف لنص ابن بشر؛ فلا وقعة للإمام عبدالله ضد صفينة وأهلها.
والعارف بتاريخ صفينة يعلم أنها لم تدخل في أي حرب ضد ابن سعود في مراحل الدولة الثلاث، فهي التي أقام فيها الإمام عبدالله بن سعود واحتمى بقلعتها، وهذا الموقف أحد المواقف الجليلة لذوي غبن مع آل سعود، ولم يكن الموقف الوحيد؛ إذ قال الباحث القدير الشيخ ماجد بن رزق الله الشلاحي: إنّ ذوي غبن استضافوا الإمام فيصل بن تركي لمدة ستة أشهر أيام الحملة التركية للمرة الأولى عام 1259هـ، وذكر بخيت بن بنيان اللهيبي العوفي أن الإمام فيصل بن تركي طلب منهم أن يوصله إلى ابن غبن في صفينة، فأقام عند ابن غبن ستة أشهر، ثم جهّزه حتى وصل الدرعية. وفي رحلتي لتوثيق هذا الموقف سألت رجال اللهبة من حرب في مجلس الأستاذ أحمد بن بشير بن خصيفان الحسيني في المدينة المنورة - بحضور سعود بن مشعان بن موقد العوفي الحربي وسعود الصاعدي - فأفادوني بصحّة الرواية. ورواها لي الأستاذ محمد بن غالي الترجمي فقال: إن الوحارية من اللهبة من عوف من قبيلة حرب - وهم رجال ابن بنيان - أنقذوا الإمام فيصل بن تركي من الأسر التركي، وذكر شعراً ينسبه كثير من الرواة إلى الإمام فيصل:
يا العين كفي هميل الدمع
تصبّري والرجا بالله
كثر البكا ينكتب لك ذنب
والموت برقاب خلق الله
ويذكر الرواة أن الإمام فيصل كان يتوجد بعد أسره فيقول:
يا العين لا تبكين يا هبيله
تبكين حي دونه المزن غطيس
يا دونها من عقلةٍ مستديرة
اللي تخلي ضمر الخيل يبيس
وذكر المؤرخ ماجد بن رزق الله الشلاحي أن الشيخ ناصر بن بخيت بن بنيان اللهيبي أعطى الملك عبد العزيز رحمة الله وثيقة تثبت هذه الحادثة، فكافأه الملك عبد العزيز بمنزل في مكة المكرمة. أما في الدولة السعودية الثالثة فقد كانت صفينة أول قرية في الحجاز تحصل الأمان والبيرق من الملك عبد العزيز في شهر جمادى عام 1338هـ.
الوقفة الثالثة
جاء في المقال: «ويرصد أحد تقارير العساكر تلك التحركات ويذكر أن الإمام عبد الله مقيم في صفينة وأرسل إلى جميع القبائل أشخاصاً مخصوصين من قبله لإقناعهم في الانضمام إليه وأن العساكر تمكنوا من القبض على أحد هؤلاء الأشخاص المرسلين إلى قبيلة بني عمرو أهل وادي الفرع وأن ابن جبرين شيخ بني عبدالله من مطير قد انضم إلى جانب الإمام عبد الله».
قلت: التقرير المذكور هو إفادة عن تحركات عبد الله بن سعود وعن علاقاته ببعض القبائل العربية تاريخه 13 جمادى الأولى 1229هـ / 3 مايو 1814م وهو في خمس صفحات (انظر: من وثائق شبه الجزيرة العربية في العصـر الحديث، عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم 2/ 165 - 169)، يقول التقرير: «تواجد الإمام عبد الله في وادي الفرع وصفينة وقدير... (إلى أن قال) إن عبد الله المذكور يقيم لغاية الآن في صفينة، وضم ابن جبريل شيخ قبيلة بني عبد الله التي كانت تابعة لنا بخمسة عشر شخصا من معيته في جماعة الوهابيين، ولوجود قلعة في صفينة يصح إقامته فيها والله يعلم يحتمل أن يكون ضعيفاً، ولا أدرى بأن يتلقى النجـدة من درعيته أم لا». وللتعليق على هذا التقرير:
1 - [قدير] هنا المقصود بها قرية قديد من ديار بني سليم جنوباً عن وادي الفرع وغرب جنوب صفينة.
2 - كانت رئاسة قرية صفينة - أيام الإمام عبدالله بن سعود - للشيخ عقاب بن نايف ابن غبن الوسمي. (انظر: قبيلة مطير في كتابات المؤرخين السعوديين 16).
الوقفة الرابعة
جاء في المقال: «وفي وثيقة نادرة ننشرها لأول مرة وهي عبارة عن رسالة من كبار قبيلة مَنَاش إلى كبار قبيلة جهم وكلا القبيلتين من بني عمرو من حرب أهل وادي الفرع يتحدث كاتب الرسالة عن بعض أخبار جيش الإمام عبدالله المُعسكِر في صفينة ...»
وكان يلزم الكاتب إيراد الوثيقة كما هي ثم يصحح الأخطاء اللغوية والإملائية، ولي هنا بعض الملاحظات منها:
1 - الوثيقة رسالة من مَنَاش إلى كبار جهم، وكلاهما من قبيلة حرب.
2 - الاسم الصحيح للقرية: السوارقية، وليس السويرقية -كما يقول أهلها الآن - فهي منسوبة إلى وادٍ قريب منها يُسمّى: سوارق. وسبق للدكتور تنيضب الفايدي إيضاحه في مقالته في صحيفة المدينة المنورة في 09/ مايو/ 2014م، وأعادَهُ الدكتور الفايدي في ندوة [مهد الذهب عبر التاريخ].
3 - الخلاف بين أهل السوارقية وأهل صفينة - كما ورد في الوثيقة - لم نسمع به في الروايات الشفوية ولا في المصادر قبل هذه الوثيقة، والذي تنقله إلينا الوثائق يخالف ما ورد فيها، فمن ذلك: عطاء كبار بني عبدالله لسلطان بن غبن والعوارض الحماية للسوارقية، فكيف يعطون الحماية ويتقاتلون؟ وهذه هي الوثيقة:
طائفة من الطوائف وعيو وبعد أشراف عليهم ............
أقول وأنا وافر بن عيبان أنى قد أعطيت صلطان والعوارض الحميه على أهل السوارقية وقطعت وعلى هذا عرضي وأمان الله، أقول وان مرزوق القنيني أنى قد أعطيت صلطان والعوارض الحمية على أهل السوارقية وقطعت عنهم العنيه وعلى هذا ألزمت عرضي وأمان الله، أقول وأنا مسعود بن صغير إنى قد أعطيت صلطان والعوارض الحميه على أهل السوارقية وقطعت عنهم العنيه وعلى هذا ألزمت وجهي وأمان الله، أقول وأنا عمار بن عصيم أنى قد أعطيت صلطان والعوارض الحميه على أهل السوارقية وقطعت عنهم العنيه وعلى هذا وجهي وأمان الله، أقول صحران بن حريش ومحسن بن بطي أنا قد أعطينا صلطان والعوارض الحميه على أهل السوارقية وقطعنا عنهم العنيه وعلى هذا لزمنا أعراضا وأمان الله. (انظر: الوثائق المنيرة 1/ 287 - 289، وبناءً على أسماء المذكورين في الوثيقة أقدّر أنّ تاريخها سنة 1185هـ).
وتشير وثائق أخرى إلى أنه ليس لابن غبن صاحب صفينة مثار في السوارقية. (انظر: الوثائق المنيرة 1/ 294)
4 - واستنتج الكاتب من خلال هذه الوثيقة وجود سبر أي جواسيس لقبيلة مَنَاش يتابعون تحركات ذلك الجيش المعسكر في صفينة. قلتُ: الواضح من الوثيقة أن لمناش سبر - كما هو معتاد عند القبائل - وليس جواسيس، والفرق بينهما كبير جداً، فالسبر طلائع استكشافية ترصد الحركة من بعيد. مع العلم أن صفينة والسوارقية ولاية مستقلة في ذلك الوقت فيصعب أن يكون في ديارهم جواسيس لقبائل أخرى دون أن يُكتشف أمرهم.
5 - في قراءة كلمة [ستطعر رجل] قرأها الأستاذ محمد: تسع عشـر، وصورة الوثيقة توضح أن حرف التاء في الوسط بين السين والعين، فالصواب: ستة عشر رجلا.
6 - نستفيد من الوثيقة: ذكر ابن جبرين والسورة والدياحين من مطير، ومن حرب: ابن كمي والغيداني وابن غليفيص البدراني ومَنَاش وجهم.
7 - وذكر الأخ محمد أن هناك وثائق أخرى غير مؤرخه، وكنت أتمنى إيراد كافة الوثائق.
** **
- نايف بن عوض الوسمي