كان ذلك في يناير من عام 2002م، حين حضرت افتتاح مركز الشيخ إبراهيم..
نعم، لقد مرتْ عشرون عامًا، وما زالت الشيخة مي بنت محمد بن إبراهيم آل خليفة تغرس وردةَ إنجازٍ، تلوَ وردَةٍ، حتى شكَّلَتْ شخصية الجمال والجلال للثقافة والتراث في البحرين؛ إنها اللوحة الوطنية الملونة المبهجة التي رسمتها أم خالد للمشهد الثقافي في البحرين.
إذن، ليست عشرين عامًا كأي عام، إنها عشرون حقلَ وردٍ كوحدة قياس للأزمنة الجميلة، والشيخة مي حريصة على أن تقدِّمَ للتراث فيْءَ الانتماء الجميل، لتتشكل في أذهاننا جميعًا صورة تجسِّدُ ألوانُها حبَّ مي لوطنها (البحرين)؛ ففي كل شبر من هذه الجزيرة ترى مشروعًا جميلاً يضيف إلى وزن البحرين التاريخي والثقافي والفني.
عشرون عامًا، ولم أزل شاهدةً على هذه التجربة، بكل حرْصي على أن أكون معايشة لهذا الإلهام البهي، وأن أتابع نمو تلك المشاريع كزهور تجمعت في بستان، ومعي يَظَلُّ العالم يشهد هذه التجربة الفريدة من نوعها لامرأة تترك تلك الحياة الهادئة التي لم تحاصرها الظروفُ بأي ضغوط لتضطرها للخروج إلى فضاء جديد عليها، لأن داخلها كون له وجودٌ يختلف عن طبيعة ذلك الهدوء الجامد، في عمقها وجودٌ يريد أن يتحقق وأن يبدع وأن ينجز وأن وأن..
خرجت من نمطية الحياة لتبحث بين أنقاض السنوات عن بيت جدها، وتزيل عنه أنقاض الحجر وركام النسيان، يحثها عشق التراث؛ لأنه هو التاريخ، فإن الذي سيضيع تاريخه وهو قادر على حفظه، لن يستطيع الاحتفاظ بمستقبله أبدًا!
لم يكن الأمر مجرّد عمل روتيني بين حفيدة وجدود، إنما كأني شعرتُ بأنها تكلِّمُ هذا المكان، وتحاور هذه الأرض، وتفاوض آثار الزمن، لكي يمكنها أن تعقد صفقة روح صافية بينها وبين التاريخ، وتوقع باسم الوطن، على بنودٍ كلُّهَا مشاعر خالصة لوجود غيرمزيف، من أجل أن تعيد بناء بيت شيخ الأدباء الشيخ إبراهيم آل خلفية الذي حضر مجلسَهُ قادةُ الفكْرِ في ذلك الزمن من الريحاني وغيره من الكتاب والأدباء..
ليس أمامي الآن إلا أن أعبر عما تصوَّرْتُهُ من أن هذا البيت بكل ما قيل فيه من شِعر، ودُرِسَ فيه من علوم صارجدرانه بالتبعيةِ جدرانًا مفكرةً وشاعرة، لكنها -ككل شيء في الحياة مع مرور الزمن- اختفت تحت الأنقاض، ومن تحت ركام أنقاض الزمن ظلت الشيخة ميّ طوال هذه السنوات تتذكر وصية والدها لها - في المنام - بأن تبحث في تاريخ جدها الكبير، وربما لم تدركْ هي نفسها أنها تلبي نداء تلك الجدران المتشربة بروح الشيخ إبراهيم، لكني أثق أنها كانت المختارة لتلبية ذلك النداء..
ليكون هذا البيت بداية لمشروع كبير ومتتال ولا ينتهي، مشروع لم يكن مخططًا له؛ وهكذا الروح وعوالمها في الإبداع، تلك التي لا يمكن الحركة فيها إلا بموهبة، وأنا أشهد أن ميَّ موهوبة بحق، وإلا لما انطلقت بأجنحة الإبداع الجميل في هذا الفضاء المزدحم بأمور شتى، محلِّقةً بمشاعر الانتماء لتاريخ أجدادها، فبدأت بكتابين عنهم، ثم انطلقت في ترميم بيوتهم، وأكملت المسيرة لتحتوي مشاعرها وجهودها كل بيت كانت له بصمة ولو بسيطة؛ من أجل أن تستعيد حضور هذا البيت بتاريخه وذكرياته، وحتى تنعشه بنشاط لا يتوقف يومًا.
أليس محظوظًا إذنْ من تابع هذه التجربة، وأنا منهم؟
لم تكن البدايات بالأمر السهل قط؛ فقد توالت التحديات بطبيعة الحال، ولا بد أن تتوالى ليتأكد التاريخ أن طالب ذلك الوجود القديم الأصيل الجميل ليس عابر سبيل، ولقد تأكد التاريخ أن ميّ صاحبة بيتٍ، وبِنْتُ تراثٍ بارّة، ولن تفر من معركة التحديات مهما كانت..
لم تكن تحديات لوجستية (أي: مرتبطة بالمكان والزمان، والإمكانيات المادية فقط)، ولكنها كانت مرتبطة بظاهرة الضد كذلك، وما أصعب أن يأتيك الضد من حيث لا تدري، والأصعب أن يأتيك من حيث كنت تظن العونَ والتشجيع!
لكن أتاها المدد من القيادة الحكيمة التي تتمتع بها البحرين عبر التاريخ، فقدَّمَ لها صاحب الجلالة ملك مملكة البحرين- حفظه الله ورعاه- كل أنواع الدعم المادي والمعنوي وعلى كل المستويات. وساندتها صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم الخليفة قرينة ملك مملكة البحرين- حفظها الله-، بتفضلها بدعم غير محدود وبتبنيها كثيرًا من المشاريع التي قامت بها مي.
أما الأب الحنون المنصت لهموم مي بابتسامته الحنونة في هذه السنوات العشرين فكان صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان الخليفة رئيس مجلس الوزراء رحمه الله وأسكنه الجنة.
فانطلقتْ ميُّ غير قادرة على التوقف فهي ترى عن بعد صورة ذلك المشروع بعد إنجازه، ولم تحدد هدفًا آخر لهذه الرحلة، فكانت تنطلق، وبين حين وآخر تزيل عن أجنحتها بعض عفر المعوقات، لتنطلق من جديد..
هل تظنون أن شهادتي مجروحة؟
أبدًا، شهادتي ليست مجروحة، وإن كنْتُ الصديقة القريبة من الشيخة مي منذ عام 2001 حتى اليوم؛ وكل من يعرفونني يعرفون أني لا أجامل، ولا أدعي، وقد ظللْتُ معها من لحظة (الشخبطة) على أوراق تخيل المشروع - كما يفعل كل مبدع في بداية عمله الفني الذي سيحقق به جزءًا من روحِهِ- حتى اكتمال المشروع!
لم تكن معجزتها في الإنجاز نفسه، إنما في زمن الإنجاز؛ فكل مشروع لم يأخذ منها سوى ثمانية أشهر أو سنة على الأكثر. ولأن الله يحب الإنسان المخلص في عمله، صاحبَ النية الطيبة، فكانت تتفتح لها المشاريع، وتطيع الظروفُ رغبتها، وتخضع الأشياء لتصوراتها، فتنطلق من بيت الشيخ إبراهيم إلى شراء وترميم بيت الشعر، وهو للشاعر إبراهيم العريض، وبيت سلمان بن مطر، وبيت القهوة وبيت الكورار وهو للحرف القديمة، ثم إلى طريق (الحرير)، ثم القلاع...
وهكذا بمثل كل هذه المشاريع الثقافية التراثية مجتمعةً تنتقل خريطة البحرين من الجغرافيا الإقليمية إلى الجغرافيا العالمية، لتتوالى الجوائز لهذه المشاريع وصاحبتها اعترافًا دوليًا بما قامت وتقوم به.
ليس هذا فقط؛ فلقد صارت نموذجًا ملهمًا، وقد رأيت ضيوفها من دول الخليج يأتون لينبهروا بما يرون وما يسمعون، يأتون حين يشعرون بحنين إلى المفاجآت.
لقد رأيت -مثلاً، في إحدى الاحتفاليات منذ سنوات- الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز حين كان مسؤولاً عن الثقافة في المملكة، وقد انبهر بما رآه هنا، واستلهم منه.
وعن نفسي، فقد كنت أنا أول من استلهم روح هذه المشاريع المبادِرَةِ بالفعل على أرض الواقع، حين عدتُ إلى بلدي، فقصدت المنطقة التي نشأت فيها (سوق الذهب في ديره)، فأنشأت أول متحف يوثق لتاريخ النساء، ولم يكن ذلك هينًا، لولا أني عايشتُ تجربة ميّ، واستوعبتها، وأدركت أن كل شيء يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إذا كانت هناك نية صادقة، وعزيمة مثابرة.
لقد أصبحت مشاريع الشيخة مي نقطة استقطاب لمن يود أن ينطلق في إحياء تاريخ بلده وتجديد ثقافته ورؤيته، واتسعت رؤيتها لتحتوي الشباب، فكان مشروع (تاء الشباب)، وانضم إليها المحبون لهذه المشاريع؛ ليساندوها ويدعموها ويكونوا لها عونًا فنرى الآن أسماءهم على هذه المشاريع التي دعموها.
إنني الآن أغرس هذه الكلمات في حديقة المحرق متأثرةً بما يحيط بي الآن من زهور هذه المشاريع وبساتينها أقصد المنازل التي نورتسكيك المحرق. نعم، أنا الآن أكتب هذه الكلمات وأنا مقيمة في أحد المنازل القديمة التي جددتها مي، وبثت فيها روح الجمال «نزل» خصصته لضيافة محبي البحرين وتاريخه وتراثه، ذلك الحب الذي شاركتْ في تشكيله تلك السيدة التي إن لمست شيئًا يتحول إلى قطعة فنية جميلة فيها روح، وليست قطعة جامدة..
ومن المفارقات التي تحضرني الآن فكرةُ أننا اعتدنا السكن في الفنادق الفخمة الباذخة، لكن لا نجد تلك السكينة التي وجدْتهَا في هذا المنزل وهذه الغرفة المطلة على تاريخ البحرين.
قد أكون اختصرت تجربة عشرين سنة في كلمة صغيرة، لكن أيّ كلمة مهما كبرت ستظل صغيرة أمام هذا الجمال البحريني الذي تشعر في قلبه بنبضات الشيخة مي، وفي ألوانه ببريق عينيها الآملتين دومًا بالإنجاز.
فتحية للبحرين التي أنجبت مي، وتحية لأبو خالد (زوجها) الداعم الأول والمحب دون شروط.
** **
- د. رفيعة غباش