لن يأخذك النوم، وأنتَ تقرأ مسرحيّة (ملك وثلاث نساء) للكاتبة العراقيّة ندى الشعيبي، إنّه كتاب يُوصَى بتناوله جرعةً واحدة، لها من الفعاليّة ما يجعلك يقِظاً واعياً في علاقتك مع المرأة؛ لكيلا تنقلب عبوة ناسفة لا يمكن تفكيكها إن أسأتَ إلى كينونتها العاطفيّة.
ما أجمل التاريخ حين نجعله رافعةً لواقعنا، لا سوطاً يُلهِب ظهورنا! ما أجمل التاريخ حين نسقط عليه حاضرنا؛ ليكون مطيّة لأفكارنا النيّرة! بعيداً عن المباشَرة والتقرير. تقتحم الكاتبة ندى الشعيبي عالم المرأة، وهي تمتلك أدواتها الإبداعيّة بامتياز، فتدخل ممرّات ضيّقة، وتضيء زوايا مظلمة في البنية النفسيّة للمرأة.
المرأة تتنفّس من رئة الوفاء، ولا شيء يخنقها كالخيانة أو التهميش، تظلّ بخير ما دامت محوراً لحياة الرجل، أمّا الخطر الوجوديّ الذي يهدّد كيانها فهو امرأة أخرى تتسلّل بغتة إلى حياة زوجها؛ ممّا يدفعها إلى خوض المعركة مستخدمة كلّ أسلحة الردع النوعيّة التي بحوزتها.
اتّخذت الكاتبة التاريخ مسرحاً لأحداث متصاعدة إلى الذروة، ووعاءً أودعت فيه أفكارَها التي أرادت تمريرها بذكاء ومهارة وبراعة. وفي إطار بحثك عن تاريخ حضارةٍ أو شخصٍ أو مرحلة، قد يغنيك كاتب يروي قصة عن آلاف المراجع والمصادر وستفهم بالتحديد وبدقةٍ بالغة شكل وشخصية تلك الحضارة أو المرحلة أو الحدث.
حرب باردة تدور في بلاط الملك (نبوخذ نصّر) بما يحمله من قيمة تاريخيّة، بين ثلاث نساء يتنازعن للفوز بقلب الملك؛ الأولى (أماتيس) أميرة ميديّة وهي الزوجة الأولى ذات المقام الأرفع التي تعتبر نفسها النسخة الأصليّة، أمّا الثانية فهي (نيوكاتريس) أميرة مصريّة أخت فرعون مصر، القادمة إلى القصر من زواج سياسيّ فرضته معطيات الحرب، والثالثة (دورا) جارية يهوديّة فائقة الجمال، ممّن يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراكَ به.
الزواج السياسيّ مصطلح لا يقنع الزوجة الأصل؛ فقلب الرجل لا يقبل القسمة على اثنتين، والمرأة لا تفهم إلا لغة العاطفة، أمّا لغة المصالح والسياسة فلا تعترف بها.
الفرحة بالنصر المؤزّر الذي يحرزه الملك في الحرب، يفسدها القلق من قادمة جديدة غير مرغوب بها إلى القصر، هي من غنائم الحرب.
(ملك وثلاث نساء) مزيج من التاريخ والسياسة والحبّ يختلط إلى حدّ التماهي، أبدعته الكاتبة ندى الشعيبي بعدما أضافت إليه شيئاً من نفسها؛ فحضارة بابل العريقة كانت حاضرة بقوّة ، والمكائد التي تُنسَج في قصور الحكّام عبر العصور كانت واضحة جليّة في المسرحيّة.
عالم المرأة بأسراره ومكنوناته وحقائقه، غاصت الكاتبة فيه إلى العمق محاولةً استكشافه، بمهارة الغواص الخبير.
وإذا حلّلتَ النصّ تحت المجهر وجدتَ نسبة الفخر في حدودها العليا؛ فخر بالعراق العظيم، فخر بحضارة بلاد الرافدين العريقة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، ووجدتَ أيضاً انتقاداً لاذعاً للرجل الملك الذي يبيح لنفسه ما لا يبيحه للمرأة تحت عنوان (أنا رجل).
أمّا الحوار فكان سريعاً رشيقاً كغزال، شائقاً يجعلك تحبس الأنفاس في انتظار الحدث. قلبك يقف على رؤوس أصابعه ليعرف ماذا سيفعل نبوخذ نصر حين يرى حبيبته وزوجته في حضن رجل آخر.
خطورة العمل تنبع من قدرة الشعيبي الفائقة في الولوج داخل عقول المغامرين في النص، وكأنك تراهم من الداخل يدخلون ساحة ملحمة وتكاد تخشى على صدرك من طعنةٍ شاردة فالخناجر تحت وسائد المكيدة، والقصر لعبة تصفية.
عمل أدبيّ غاية في الأهمّيّة، يشهد للأديبة ندى الشعيبي بعلوّ منزلتها الأدبيّة، ويضعها في طبقة كبار الكتّاب. وربما تلك القدرة الفائقة على تحويل التاريخ لنص فني جزء جيني طبيعي عند الشعيبي التي كانت لها تحفة سابقة جعلت فيها بغداد مسرح عملياتها حيث روت حكايا وردة بغداد التي بذرها التاريخ في عصر الرشيد وسقاها الإبداع الأدبي العرقي وكانت ندى الشعيبي علامة فارقة على أوراقها..
** **
- رواد العوام