لئن كان بعض المغالين لا يرى قيمة تُذكر للرواية بعيدًا عن روّادها الأوائل من العهد الروسي، أمثال «ليو تولستوي» و»فيودور دوستويفسكي» و»مكسيم غوركي»، وبالرغم ممّا نجده لدى أصحاب هذا الرأي من تجنٍّ على الرواية في باقي بلدان العالم، إذ يعتقدون أنّ كلّ ما دون جمال وواقعيّة وعمق الأدب الروسي لا يمتّ إلى السرد الإبداعي بصلة؛ إلّا أنّ مطالعة واحد من أعمال أحد هذه الأسماء الخالدة، برويّة وهدوء، تجعلك تنحى هذا المنحى في التفكير، إذ توقفك على حقيقةٍ لا مناصّ من الاعتراف بها والتسليم بمقتضياتها، وهي أنّ الرواية ربّما توقّفت بالفعل هناك، ولم تتزحزح عن موقعها بعد كلّ هذه السنوات، رغم تعدُّد الأقلام الإبداعيّة التي تناولتها في مشارق الأرض ومغاربها، والتي تمثّل مختلف المجتمعات البشريّة وثقافاتها.
من جهة أخرى، إنّ أولئك الذين لا يرون للرواية فضلًا، ويقلّلون من شأنها في موازاة باقي الأجناس الأدبيّة، متغنّين بالشعر في حضرتها، لن يسعَهم، متى قرؤوا بتمعُّنٍ شيئًا من إبداعات ذلك الجيل، إخفاءَ تأثُّرهم بتولستوي وفلسفته للحياة على نحوٍ هو غاية في الروعة والواقعيّة؛ ومع أنّني أكاد أجزم بأنّهم قد يتجنّون على أولئك الأفذاذ، معتبرين أنّهم إنّما كانوا يرصدون واقعًا حقيقيًّا، ينقلونه لنا بأدقّ تفاصيله دون جهد - رغم أنّ أعمالهم كانت من وحي الخيال، وليست سِيَرًا ذاتيّة - إلّا أنّني على ثقة من أنّهم متى عادوا لمطالعة هذه الأعمال الإبداعية لن يلبثوا أن يبدّلوا رأيهم ويتراجعوا في أقوالهم، ذلك أنّهم سيكتشفون العمق المكتنزة به تلك السطور، والذي يستحيل وجوده دون تدخُّلٍ من الناقل، وأنّ التطويل والاستفاضة في تلك السرديّات فيه من الفائدة ما يبرّره.
وبالعودة إلى موضوع دراستي، وأعني به تولستوي الفيلسوف (لا الكاتب) أجد نفسي ملزمًا بالاعتراف بانبهاري الكبير بالتجربة التي عشتها عند معاودة قراءة رائعته «أنّا كارنينا» التي ظنّها بعضهم أقلّ أهمّيّة من رائعته الأخرى «الحرب والسلام»؛ على أنّها - يقينًا - ليست كذلك، رغم صغر حجمها، ومحدوديّة أبطالها، وفترتها الزمنيّة القصيرة نسبيًّا مقارنةً بشقيقتها الكبرى. ولئن كانت إحدى روائع تولستوي خيرًا من غيرها، في ظنِّ النقّاد والمحبّين - وربّما في ظنّه هو شخصيًّا - إلّا أنّ جميع ما جرى به مداد قلمه يؤكِّد إبداعه وتميُّزه، إذ خلّده التاريخ، وبالتالي لا يحسن لكائن من كان التقليل من قيمته.
لم يأتِ تولستوي بجديد في قصّته التي صوّرت الخيانات الزوجيّة وضررها الكبير على المدى القريب والبعيد، باعتبارها جريمةً لا تُغتفر، ولا يمكن أن يقبلَها أيُّ مجتمع مهما بلغت ثقافته أو كان انتماؤه الديني؛ أيضًا لم يختلف عن غيره في سرده للأحداث التي اجتهد كثيرًا في إظهارها بالمظهر الذي يليق بها. وهنا نتساءل، ما اللافت إذًا في هذا العمل، وما الذي أكسبه كلّ هذه الأهمّيّة التاريخيّة؟!
لعلّ سرّ الصنعة التي أتقنها «تولستوي» وأبدع من خلالها يكمن في تركه الاهتمام بالقشور السطحيّة التي يدركها الخاصّة والعامّة - رغم سرده لها بإتقان عجيب، وإشغال ملتقطي المتعة وعوامّ القرّاء بها - وذهابه باتّجاه سبر الأغوار السحيقة للنفس البشريّة، والتحدُّث بإسهاب جميل عن دورها المحوري في كلّ ما تقترفه جوارحُنا من أعمال قد لا نجد غالبًا ما يبرِّرها، كالخيانة التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي يقع فيها الإنسان بالرغم من عدم الحاجة إليها في كثير من الأحيان! وكذلك الحبّ الذي يطرق أبواب قلوبنا فجأة، ويختلف تعاطينا معه... ولعلّي أتوقّف قليلًا هنا لأذكر - من باب الفائدة - أنّه لا عيب في تكرار الحكاية طالما أنّه في وسعنا أن نكون متفرِّدين في طريقة أو منهجيّة سردنا لوقائعها؛ فالأحداث بشكل عامّ، تقع غالبًا على نسق واحد، وتتكرّر، لكنَّ الأعين تلتقطها بشكل مختلف، وتعدُّد الآراء حولها يُثريها أكثر. وحتى ندرك ذلك، علينا العودة لقصة «أنّا كارنينا» التي لم يكن من قبيل المصادفة بدؤها بخيانةٍ ارتكبها أخوها «ستيفان ابلنسكي»، الشابّ المستهتر الذي يمثِّل الطبقة الأرستوقراطيّة في المجتمع الروسي، وذلك عندما اكتشفت زوجته «داريا شرباتسكي» خيانته لها مع المربيّة الفرنسيّة الحسناء، واعترافه بجريمته أمامها، ببلادته المعهودة، وبتلك الابتسامة البلهاء التي صوّرها تولستوي بشكل بديع، ينطوي على رمزيّةٍ عظيمة لا يمكن تجاهلها.
أراد تولستوي بذلك أن ينطلقَ، في حديثه عن الخيانة، من خلال تصوير نظرة المجتمع (نسائه ورجاله) لخيانة الرجل، وكيف أنّهم يغفرونها له مهما عظُمت. وليس أدلّ على ذلك من نسيان «أبلنسكي» أنّ عليه، قبل الخروج إلى عمله، الذهاب إلى زوجته محاولًا استرضاءَها، استجابة للحاضنة خاصّتهم «ماترينا فليمونوفنا» التي أقسمت عليه بوجدٍ بالغ أن يفعلَ ذلك. وكان لافتًا أنّ الزوجة، رغم سخطها وإرعادها وإزبادها وتهديداتها بتركها بيته، سرعان ما عادت عن كلِّ ذلك، ورضيت بتجاوزه، بل إنّها لم تجد مناصًا من استعادة كلّ مشاعرها نحو الزوج الغادر المتلبِّس بالجرم المشهود. كان عليها أن تنصتَ فقط لصوت العقل الذي نطقت به «كارنينا»، مع أنّ زوجها «ستيفان» لم يُظهر عظيم الأسى على فعلته، بل إنّه لم يكن ليحفلَ بها لولا خضوعه لاستجداء خدمه الذين كانوا يُشفقون عليهما، ويخشون انهيار العائلة، ويصلّون من أجل رأب الصدع رأفةً بأبنائهما.
كانت هذه هي البداية التي انطلقت منها الحكاية العظيمة التي لم تُخفِ مطلقًا أنّ خيانة الرجل انتهت في يومها الأوّل، ونسيها الجميع، بما في ذلك الزوجة المخدوعة، بينما - وعلى العكس من ذلك - كانت خيانة «أنّا كارنينا» هي الحكاية الكبيرة التي قرّر «تولستوي» أن يرويَها لنا كمأساة حقيقيّة أوقفنا على كلّ فصولها وأدقّ تفاصيلها، حتّى عجز في نهاية الأمر عن إنهائها، وتركَ لـ»أنّا» أن تنهيَها بطريقتها. فهل كانت حكايتها تستحقّ كلّ ذلك؟!
في ظنّي إنّها تستحقّ أكثر من ذلك، طالما أنّ هناك من يستطيع فهمها، ويجيد الحديث عنها؛ وهو ما فعله كاتبنا بمهارة قلَّ نظيرها، إذ يبهرك بالحديث عن تفاصيل الحياة الشائقة التي تأخذ بتلابيبك لمتابعة الحكاية، وانتظار ما سيحدث لاحقًا، دون إهمال التبصُّر والتفكُّر في النفس البشريّة التي يصعب تصوُّر شطحاتها، والتي تُدخلك في دوّامة التفكير، فتثير فيك كلِّ مرّة تساؤلات قد لا تجد الإجابة عنها، منها: هل نحن بالفعل بهذا السوء في تعاطينا مع أنفسنا؟! ولمَ لا نستطيع كبح جماحها إن تجاوزت الحدود المرسومة لها؟! وهل نحن من الضعف بمكان حتّى أنّنا لا نستطيع العودة عن تجاوزاتنا وإصلاح ما أفسدته أنفسنا؟!
ذلك ما دعاني للنظر إلى حكاية «أنّا كارنينا» على أنّها ليست مجرّد ملهاة نتسلّى بها، بل فلسفة عظيمة عُنِيَت بالخيانة، وأفردت صفحات للحديث عنها، واستخدمت سيماء الوجوه، والسيمياء الحواريّة بدلالاتها اللفظيّة العميقة، وسيمياء الجسد بإشاراته التي لا تخطئها العين الحصيفة، وكذلك سيمياء المكان والزمان، أي أنّه سخَّرَ كلَّ ما تقع عليه يده، خدمةً لحكايته العظيمة. يظهر شيء من ذلك في تصويره البديع للبَون الشاسع بين «أنّا كارنينا» وعشيقها «ألكسي فرونسكي» الذي أجرمَ في حقِّ خليلته عندما تعمَّدَ إيقاعَها في هذا المستنقع الآسن، وهو يعلم أنّها زوجةٌ وأمٌّ، حريٌّ بها أن تحفظَ مشاعرَها لبيتها ولزوجها الذي شاءت الأقدار أن يكونَ هو حليلها، حتّى وإن كان يكبرها سنًّا، أو كان قبيحًا نافرَ الأذنين - كما تصفه - ولم تستطع محبّته؛ ورغم عِظَم جرم «ألكسي» كونه هو من دفعها لهذا الأمر، إلّا أنّه لم ينشغل خلال كامل الحكاية إلّا بعلاقته بها، وقربها وبعدها عنه، وغيرتها التي بدأت تشتعل عندما ظهر عزوفه عنها، وتفكيره في نهاية الأمر أنّ عليه تصحيح خطئه بالبحث عن زوجة يضمن من خلالها امتداد نسله، وبالأبناء الذين كان عليه التفكير بهم والبحث عنهم مبكِّرًا، لولا انجرافه خلف مشاعره. ما يعني أنّه لم يكن بحالٍ من الأحوال معنيًّا بالتفكير في إثم الخيانة وأثرها في نفسه، بل قد لا يراها كذلك. في وقت كانت «أنّا» تذبل شيئًا فشيئًا، وتتخلّى عن كلّ ما كان يميّزها ويُعلي من شأنها، وهي لا تفكِّر إلّا في خيانتها التي قصمت ظهر زوجها وظهرها أيضًا، وستقتل ابنها مستقبلًا؛ وكيف أنّ كلّ قراراتها ارتبطت بنظرته تلك لما اقترفته يداها من عمل غير صالح، أوردها ذلك المورد الذي قضى عليها، إذ زجَّ بها في صراعات نفسيّة فتّت عضدَها، وأفقدتها اعتدادها بنفسها، وأنفتها وكبرياءها، وجعلتها لا ترى جمالها، وتنسى فتنتها؛ إلّا أنّها عندما قابلت «ليفين» زوج «كاترين شرباتسكي» - غريمتها الأولى، اختبرت فتنتها مجدّدًا من خلال محاولة إغوائه، ولقد نجحت في ذلك أيّما نجاح، وكان في ما حدث رسالة عظيمة، مفادها أنّ ثقتنا في أنفسنا هي سرُّ جمالنا، وبدونها قد يذهب كلّ ذلك. كان تولستوي حريصًا على بثّ مثل هذه الأفكار العميقة جدًّا، من خلال أكثر من موضع، مظهرًا غياب فتنتها حينًا، وحضورها حينًا آخر، وتردُّدها بين هذه وتلك في حواراتها مع خليلها «فرونسكي»، وكيف أنَّ كلذلك تأثّر تأثُّرًا بالغًا بحالتها النفسيّة.
إنّ فلسفة الخيانة التي استوقفتني كثيرًا في هذه السرديّة، ودفعتني للكتابة عنها بمعزلٍ عن باقي الأشياء الرائعة واللافتة في هذا العمل العبقري، اعتمدَت على أنّنا نحن بني البشر لسنا معصومين من الوقوع فيها، مهما كانت رجاحة عقولنا ومنعتنا الأخلاقيّة والمجتمعيّة، أو حتّى الدينيّة؛ فالسيّدة «كارنينا» كانت تمثّل كلّ ذلك، إذ لم يكن ينقصها العقل والفطنة والالتزام بالضوابط المجتمعيّة، وهي التي استطاعت في بضع دقائق إقناع زوجة أخيها «داريا شرباتسكي» بقبول خيانة زوجها، وأعادت الحياة بينهما لسابق عهدها، وفي ذلك ما يشير إلى حكمتها. حتّى أنَّ أخيها لم يجد غيرها يلجأ إليه لإنقاذه من سقطته.
لكنّ كلّ ذلك لا يُعَدُّ شيئًا مقارنة بنظرة المرأة إلى الخيانة، وعظيم تأثُّرها بها، مقابل نظرة الرجل القاصرة التي لا تحفل إلّا بإشباع شهوته، والغوص في ملذّاته، مع أنّ كليهما - من خلال هذه الحكاية - أتاها مدفوعًا بعاطفة جيّاشة، طمست العقل، وأقصت كلّ ما يحول بين العاشقين. وممّا يدلّ على القيمة التي تمثّلها السيّدة «كارنينا» أنّها رغم تدنّسها بالخيانة، ومع أنّها كانت سبب مرض «كاثرين» أخت «داريا» عندما سرقت خطيبها «فرونسكي» منها، إلّا أنّ «داريا» لم تستطع التقليل من شأنها، أو فقد احترامها لها، بل بلغ بها الأمر أن شدّت الرحال إليها عندما سمعت بوجودها في قرية تبعد قليلًا عن القرية التي كانت فيها؛ وكيف أنّها عندما علمت بالخلاف الذي نشأ مع عشيقها «فلونسكي»، بذلت قصارى جهدها لتسديد دينها بإصلاح العلاقة بينهما، وفي ذلك ما يشير بوضوح إلى أنّ «أنّا كارنينا» لم تكن ساقطة أو عاهرة، بل كانت امرأة ناضجة، تمتلك كلّ ما من شأنه إعلاء منزلتها واحترامها في نظر كلّ من عرفها، قبل سقوطها في وحل الخيانة. بيد أنّها - ورغم كلّ ذلك - عجزت عن كبح جماح نفسها، ووقعت في تلك البِركة الآسنة رغم معرفتها بها، ونصحها لداريا بعدم الوقوع فيها، في الحوار الجميل الذي دار بينهما عند إقناعها لها بمغفرة سقطة أخيها، ولعل ذلك كلّه كان السبب في هلاكها، فهي لم تستطع نسيان فضائلها، وأمومتها، ووضعها المجتمعي (كونها زوجة أحد الوزراء)، ووقعت في مغبّة التفكير بالقرار الذي عليها اتّخاذه للخروج من ذلك النفق المظلم، وعجزت عنه تمامًا عندما وقعت في المعترك الآخر الذي سنتناوله لاحقًا، وهو الحب بفلسفته العظيمة التي حفل بها هذا العمل.
من المفارقات التي تعلّقت أيضًا بالخيانة، وهي حقيقة يدركها كلّ من سقط في هذا الفخّ، أنّ أوّل المتخلّين عن الخائن هم الذين دفعوه للخيانة، وزيّنوها في نفسه، وأعانوه عليها. صوّرها لنا الفيلسوف «تولستوي» في شخص الأميرة «بتسي» التي وصفتها «كارنينا» - رغم صداقتها الحميمة لها - بأقذر المخلوقات، وهي تتعجّب من ادّعائها الشرف، وتخلّيها عنها بعد أن شاع أمر خيانتها، رغم ما ظهر من أنّ الأميرة «بتسي» كانت من العابثين الموغلين في الخيانة، حتّى لأنفسهم. تجلّى ذلك بوضوح في حديثها مع «أبلنسكي» عند زيارته لبطرسبورغ، ومصادفتها وهي خارجة من بيت أخته. وكان في ما دار بينهما من حوار ما يشير إلى أنّه يقضي وطره منها عند الحاجة؛ ما يؤكّد أنّ الزوج الغادر لم يتوقّف عن خيانته لزوجته، وإنّما اتّخذ وسائل أكثر نجاعة لإخفائها، وربّما أبعدها عن محيط منزله فقط، وهو ما يفعله أغلب الرجال من هذه النوعيّة، حتّى يومنا الراهن. بدت رائعةً قدرةُ الكاتب على وصفهم ذلك الوصف الدقيق، رغم قدم الزمن، وتبدّل أحوال المجتمعات، فنحن نتحدّث هنا عن منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا.
ما توقّفت عنده ليس سوى غيضٍ من فيض، فالرواية من بدايتها حتّى نهايتها لم تكن معنيّة إلّا بهذه الفلسفة، إذ لا تخلو صفحة فيها من الحديث عن الخيانة وعن انعكاسها النفسي على مقترفها وعلى كلّ المحيطين بأصحابها، يتخلّلها بالطبع حديث آخر لم يكن يقلّ أهمّيّة عنها، وأعني به موضوع الحبّ الذي ناقشه كاتبنا على نحوٍ جميل، بفلسفةٍ قلَّ مثيلها. كانت البداية مع المشهد الأوّل عندما ظهر لنا أن لا شيء يعادل حبّ الأمّ لبنيها؛ الأمر الذي دفع «داريا شرباتسكي» لتجاوز سقطة زوجها وخيانته لها، وأعجزها عن التخلّي عن أولادها رأفةً بهم، مخافة أن يدفعوا ثمن انتصارها لكرامتها؛ ما ساعد السيّدة «كارنينا» في حوارهما الاستهلالي الجميل على إقناعها بالعفو عنه.
إنّ حبّ الأمّ لبنيها هو - للحقّ - الباب الواسع الذي يتيحُ للرجل كسرَ صمود المرأة. وهو الجانب الذي تمسَّك به الفيلسوف تولستوي، فبقي حاضرًا حتّى المشهد الأخير من هذه الملحمة النفسيّة، إذ كان أكثر ما آلم «كارنينا» وتدخَّل في كلّ قراراتها المصيريّة عجزُها تمامًا عن نسيان حبّها لابنها «سيرج» الذي أخذ بشغاف قلبها، وفاق حبَّها لابنتها التي أنجبتها سفاحًا من عشيقها «فرونسكي»، كما فاق حبّها المجنون لـ «فرونسكي» نفسه. إنّ أجمل ما في هذا الصراع النفسي هو إدراكُها بفلسفة عظيمة، أنّ الحبّ الطاهر أقوى، وهو ما أشارت إليه صراحة مبدية تعجّبها إذ أحبّت ابنها «سيرج» بطريقة ملأت جوانحها، وبالقدر نفسه الذي أبغضت فيه والده؛ بينما لم يمنعها حبّها لـ «فرونسكي» من نسيان أنّ ابنتها منه وُلدت بالزنى! علمًا أنّها لم تحبَّها كما أحبَّت ابنها «سيرج». لقد كان الطهر والدناءة الفيصل في هذا الحبّ، إذ أعلت من شأن الابن، حتّى أنّ حبّها له فاق حبَّها لعشيقها، وقلّلت من شأن الابنة؛ لعمري لم يكن أجمل من هذا الحديث عن الحبّ، وتصنيفه بهذه الطريقة الفلسفيّة الموافقة بالفعل للواقع، فالأمّ يستحيل أن يفوقَ أيُّ حبٍّ آخر - مهما كان جنونه - حبَّها لأبنائها. فهي وإن اندفعت خلف نزواتها سرعان ما تعود للأصل الذي نتحدّث عنه، ألا وهو فطرة الأمومة التي تنتصر غالبًا في نهاية الأمر رغم الانتكاسات التي تلحق بها خلال هذا الطريق الشائك، إذ يستحيل المساواة بين الحبّ الطاهر والحب الناتج عن الرذيلة، وليس أدلّ على ذلك من مشاهد تخلّي الأمّهات العازبات عن فلذات أكبادهنّ، حتّى أنّه يصل بهنّ الأمر في كثير من الأحيان، لوضعهم في صناديق القُمامة أو بجوار أبواب الجوامع، في حين نجد هذه الأمّ نفسها تضع نحرها دون نحر ابنها إن كان وليد علاقة طبيعيّة، وتتخلّى عن العالم بأسره من أجله.كان ذلك جانبًا من الحبّ الذي فلسفه تولستوي، ولم يكن كلّه، فثمّة حبٌّ من نوعٍ آخر، رفيق الخيانة، يسعِّر نارها ويأبى إلّا أن يهتكَ ستار الشرف ويمرّغه في الوحل؛ وهو ما أجرى لسان «كارنينا» وجعلها لا تخشى من الاعتراف بجريمتها بحقّ زوجها وابنها، وتصرّح بحبِّها لـ «فرونسكي» ومعاشرته معاشرة الأزواج، فكان أن وضعَ حبُّها له نهايةَ هذه القصة.وبالعودة للحبّ الطاهر، نجدُ أنّ هذه الرواية عبّرت عنه من خلال محبّة داريا لزوجها «أبلنسكي» الذي ملك جوانحها، حتّى أنّها قبلت بعودتلمخدعها رغم خيانته التي لا تُغتفر. وهنا ينبغي لنا القول، إنّ المرأة - حسبما يرى تولستوي - تغفر خطيئة زوجها، وقد تسامحه أكثر من مرّة إن شعرت بأنّه لا يزال يحبُّها وأنّ خياناته تأتي عَرَضًا؛ بيد أنّها متى أبغضته بغضًا حقيقيًّا، فعليه أن يعلمَ يقينًا أنّها لن تعودَ إليه مرّة أخرى مهما حدث، وتكون في هذه الحالة عرضة لأيّ تصرُّف طائش قد يدفع حياته ثمنًا له. فالمرأة - غالبًا - لا تُحسن الحلول الوسط وإنّما تبلغ أقصى مدًى يمكن تخيّله، هذا شأنها في محبّتها وكرهها، والشاهد في هذا العمل الإنسانيّ العظيم نجده لدى «كاترين» التي أحبّت «فرونسكي» لكنّها عندما تيقّنت من خيانته لحبِّها، بعد مرحلة من المخاض الصعب، طوت صفحته، ومنحت قلبها وجسدها لـ «ليفين».أيضًا جسّدت الحبّ الطاهر الكونتس «ليديا إيفانوفنا» التي حتّمت عليها صداقتها لـ «ألكسيس كارنين» ونبل أخلاقها وتديّنها وورعها، أن تقفَ بجانبه وتعينه على الخروج من تخبّطه في قراراته مع زوجته «أنّا كارنينا» التي أوقعته في مآزق أوشكت أن تقضي عليه، لولا تدخُّلها في الوقت المناسب وإمساكها بزمام الأمور في بيته، ورعايتها لولده بعد هجران «أنّا» له وسفرها مع عشيقها. إنّه نوع آخر من الحبّ الخالص الذي حملته هذه السرديّة، وبرهنت على أنّه يسمو فوق نوازع النفس ولذّاتها، وقِلّة هم من يتّصفون به، ويكونون صادقين في تقديمه، وعطاؤهم غير محدود، كما يصفهم الكاتب.ولعلّنا نقرّ في نهاية الأمر أنّ هذه الرواية لم تُكتب مطلقًا بغرض التسلية، ويستحيل النظر إليها بعين المرتاب من جدوى قراءتها؛ ومن نافلة القول أنّه ينبغي إبعادها عن أيّ مقارنات مع أيّ جنس أدبي آخر مهما علا شأنه، إذ ليس من العدل أخذ جنس الرواية بجريرة من أساء إليها ولم يُحسن كتابتها، متجاهلين هذا النوع من الكُتّاب الذين وظّفوها لتعرية مجتمعاتهم وإيقاف ناسها على أخطائهم، وتبصيرهم بما يحتاجونه للخروج منها، إن لم يكن وقايتهم من الوقوع فيها، بأسلوب أدبيّ أخّاذ وبطريقة غير مباشرة.أمّا نحن، فلا يسعنا إلّا الاعتراف بعبقريّة هذا الرجل الذي أوقفناعلى فلسفته العظيمة التي سندركها يقينًا عند تصفّحنا لرواية «أنّا كارنينا»، والتي يمكن حصرها في أنّ أعظم خيانة قد يعيشها الإنسان وتصيب منه مقتلًا هي خيانة الحبّ الذي يستعبده!
** **
- حامد أحمد الشريف