شوقية بنت محمد الأنصاري
إن منظومة الطفولة بكل مراحلها تنبثق عبر رحلة حياتية تعيشها وتتعايشها البشرية، لا يخلو من وجودها أي زمان ومكان، تنغمس ببراءتها مع الفضاء المجتمعي، الذي كثيراً ما شوّه بقلة وعيه وظلمه وقسوته محيطها، مشاهد تتكرّر عبر العصور، وهذا الطفل في أقصى ممتلكاته يبحر، باحثاً عن كهف أمان يأوي إليه، ولقد تعايش كثير من الأطفال مع أزمة الجائحة الفيروسية (كوفيد كورونا) التي أرعبت الكبار قبل الصغار، والخوف والقلق النفسي خيّم على مساكنهم، انحفرت بذاكرتنا نحن كراشدين ملامح الرعب والتوتر مع صعود ذلك المؤشر، فكيف بالطفل؟ ألم يتغافل الكثير من الأسر والمربين عن تهدئة هذه اللحظات المرعبة؟ وانشغل الجميع بالملهيات والأناة عن توظيف الوسائل واستغلال الفرص الثقافية والترفيهية، ليعود الطفل لنور كهفه الآمن، بل العجب أن هذه الفئة «الطفولة» أثبتت جرأتها وقوتها وبراعتها في تجاوز الأزمة بلغة مهارية عالية، فكان الطفل يبثّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي نبرات صوته وأدائه التمثيلي، في رسالة للمجتمع يساهم برسم ملامحه الواعية الصادقة المتعايشة مع الأزمات، لنأتي على السؤال الأهم، نخصّ فيه أنفسنا كمهتمين بأدب الطفل وثقافته، ماذا قدمنا وسنقدم لهذه الفئة مع وبعد الأزمات؟ الحقيقة المعرفية لمرحلة الطفل التي يعي خصائصها التربويون المنغمسون في سلوكيات الطفل، أعمق حضوراً لتشكيل ملامح طفل القرن الواحد والعشرين وآدابه، بل ويتفوّقون بها على الأكاديميين والباحثين، ممن حضرت بصمتهم في إعداد البحوث والدراسات، واعتمدت على النظريات العلمية الغربية والشرقية، وأراها لا تحسن القياس على ما نشاهده اليوم من إبداع الطفولة الآسر؛ فالقراءة تعيش بينهم، متصفحاً للمعرفة ومنفتحاً على مسارات تسبق سنّه، وإن لم يحمل كتاباً يقلبه بأصابعه، استمع من خلال التقنية لقصة سردية، ومشهد مرئي، ونرقب محاكاته وتفاعله بكل جرأة، وكأنه العالِم لشيء ما لا ندركه. كل هذه الملامح حتماً لا يتفطن لها ويعي أسرارها إلا فئة محدودة مهتمة، تراقب وتدوّن الملاحظ، خاصة عندما تجد الطفل على الدوم بسؤاله حاضراً، يبحث عن حلٍّ وجواب يؤويه للسكينة والأمان، والأغلب في رأيي من الأسر والتربويين والأدباء، لا يتقنون فنون التعامل مع هذه الأسئلة ليقدم جواباً شافياً يكون منارة هداية لطريق ملامح أدب الطفل مع هذا الجيل الاستثنائي. هل يمكن للأدب أن يرسم ملامح القوة والتأثير ليعيد للطفولة هبتها، وتستديم بصمتها وتنمو أهدافها بما يرسم مستقبلها الواعد؟ هل سنرى نظماً مكتوباً ومشهداً منطوقاً يعكس حضور الطفل كبطل في الساحة، كمشهد ذلك الطفل العربي الذي شوهته ملامح الهجرة والفقر يشقى ويكد ليجمع لأمه وإخوته القوت، وعنده شغف ليعود لمقعد الدراسة وشوقه ينطق من عينيه حنيناً للعلم وأيام المدرسة؟ أما ستظل رواياتنا التقليدية وكتاباتنا العادية عن الكنز المفقود وأرض الأحلام والعجائب، باتت صوراً خيالية، لا ترسم الواقع الذي يجذب الطفل، ويفكّر فيه، ويبتكر من المشاكل الحلول والعجائب، فالتحوّل الكتابي لا بد أن يأخذ منحنى واعياً ليكون مفتاح رشد وتأثير، تثري عالم الطفل بالقيم، والحسّ الوطني، والإيثار والعطاء، فالأزمات خلقت أمام الطفولة تحوّلاً جديداً عن النمط التقليدي، فالعادات تتغير والسلوكيات تتناقض وعالم التوافه يأسرها، فدورنا التشاركي مع الأسرة والمجتمع بات موجباً لحراك اهتمامنا كأدباء ومهتمين، لدراسة هذه الحالات مع الأزمات. ولعل التعليم عن بعد نجح في تشابك الحلقة المحيطة بالطفل بقوة إنسانية تواصلية، ونجح فيها الطرفان الأسرة والمدرسة، وهنا إشادة لدور الأسرة التي لا بد أن تعي أن إبداع الطفل في القرن الواحد والعشرين يبدأ من حجرتها، حيث قيم الأصالة وتعزيز حضورها في التعامل مع الوالدين وكبار السن، والقصص والألعاب الشعبية، والتنويع في الممارسات اليومية بما يواكب لغة العصر الرقمية، كاستثمار فترة الربيع والخروج للبر والطبيعة بالحوار معها ورسم فنونها، والعمق البحثي عن تفاصيل تكوينها، وطرح أبرز القضايا البيئية والاقتصادية حولها، فبهذا التشارك يعيش الطفل مرحلة عمق فكري، يزداد من خلالها تأملاً وخيالاً، ويرغب في البحث والقراءة والكتابة، على عكس تركه يلهو طيلة الرحلة وكل همّه وهم أسرته، المأكل والمشرب واللعبة، التي انحصر حضورها بالأجهزة الإلكترونية وعزلته عن المتنفّس الطبيعي للحياة، وهنا المحك بالتشارك باللعب مع الطفل وسط هذه الأجواء، كفيلة للتفاعل والحماس والجذب نحو تعزيز لغة تواصل مع الوالدين، فيحرص الطفل في هذه الأجواء على أن يظهر أجمل ما لديه، وتتوسّع دائرته المجتمعية، وفي كل مشهد لا بد من توظيف وربط الجانب المعرفي والمهاري لتتحسّن السلوكيات وتتقوّم المهارات، والأهم غرس الوعي بداخله بأن جوهر حياته ومستقبله وسرّ نجاحه يكمن في كتاب وقلم، فالدعوة للكتابة الطفولية الجاذبة نقطتها الحاسة في صوت أدبي يقرؤه الطفل ويسمعه فيستعيد ثقته بنفسه ومجتمعه ووطنه، ليخطط لمستقبله ويبني مجده، ويعي أنه يسير على سيرة الأبطال من قبله. ولن نصل لهذه المرحلة إلا بوجود معلم ملهم، وكاتب محترف، يقف على صوت الطفل وأنينه وحيرته، ويترجم رموز منطقه، ويحلل بواعث صنعته، فهي المضامين لرواية طفولية وقصة أدبية، وتجذبه فيحاكيها، ليترجمها حرفياً وكتابياً، ثم يخرجها بلغته العصرية الرقمية، ويزداد عمقاً جمالياً لهذا النوع الأدبي الذي نعززه ببلاغة لغة القرآن وبيانها الساحر العربي، فيدرك ويزداد إيماناً وطمأنينة بثقافته الدينية والعربية. وهنا لفتة تقديرية للجهود الحكومية، التي أشعلت حضور الطفل، والموروث اللغوي، من خلال فعالياتها المتنوعة شهدتها المهرجانات المنظمة في عدة مناطق سعودية، بتنظيم وزاري ثقافي وآخر ترفيهي ورياضي وإبداع علمي، لتشهد هذه المشاهد رؤية جديدة للكتّاب والمؤلفين للطفل، ليحتضنوا حضورها في رواياتهم، بل إنني اليوم أرى الطفل يسابقنا وينافسنا في المشهد الحضاري الثقافي، كما في ملتقى القصة القصيرة الذي نظمه نادي الحدود الشمالية الأدبي الثقافي، وكان صوت الطفل الأديب حاضراً يحكي تجربته الكتابية بكل جدارة، وهناك بصمات شاهدة لحضوره فناناً وممثلاً وعالماً ومبتكراً، فلا حجة لنا سوى أن نعي دورنا في الاحتواء ونخرج من مدارسنا عشرة كتّاب أو باحثين أو فنانين، بدلاً من توجيه سهام النقد لإبداعهم. بل إن المخْرَج والمنْتَج الذي قدّمه الطفل اليوم، يجب أن يأخذ منحنى آخر في تحويله لمشاهد وعروض مرئية، تُعْرض في الفعاليات الوطنية كموسم ترفيه الرياض مثلاً. حان الوقت أن يصل إبداع الأجيال للعالمية، وهم من يترجم محتواه، ولغة الاحتواء من المختصين ترافقهم، عندها ستكون اللحظة استثنائية في منتج نقش حروفه أكثر من سبعين طفلاً في كتاب مشترك عنوانه «أدب الطفل بأقلام الناشئة» رحلة أم مع أبنائها، وليس أديباً مع جمهوره، أمّ خلعت مواهبها، وهجرت كتاباتها، واغْبَرّت مسودة رواياتها، لأن الصوت الطفولي اليوم أجدر بأن نؤويه لكهف الرشد، ولا نسمح لنظرة استخفاف أن تقتل مباهجه، قالت الكاتبة الناشئة فاتن العنزي في مقالها: (هناك حيث لا مكان للحظات أن تغادر، ولا للأفكار أن تضيع، ولا للمشاعر أن تغيب، هناك حيث البقاء والعيش والتحمل، لا للانفعالات أن تزيد، ولا للصراعات أن تنتصر، فقط ابق ماكثاً متأملاً ذاتك، راقب تصرفاتك قيّم سلكياتك، تمعن تعرّج خطاك، اكتشف توتر يداك، لاحظ القلق بمستقيم ترسمه عيناك، انظر إلى تلك الجوانب الضعيفة المتهالكة، والفراغ الذي تسلكه دون الإحساس بذلك، لن تغرق، لن تنجُ، لن تتقدم، لن تتراجع في هذا العالم، ضع نفسك تحت مِجْهَرك، لتتعرَّ من تسابق الأزمنة وسرقة اللحظات، لتتعلم لتدرك لتعِ). بهذا الصوت الواعي حقاً نقف فخراً لجمال الفكر المتزن، أما نغم الحربي فترسم رحلة العزلة بصوت أدبي بلاغي عنوانه «هيجاء التنائي» تقول: (في كل مرةٍ أهمّ بالكتابة عما أخلفته العزلة بداخلي، أجد أنني مسبقًا اقتصصت حقول الشعر، وتعرقلت بيد الفاصلة التي أحبطت قنصي للاستعارات؛ ولذلك مرارًا أعاود حرث أرض اللغة، لأنبت المجازات التي تعينني في تشتيت جيوش القلق، وهدم ثكنات اليأس، وعندما اجتاحتني أزمة إفلاس الإلهام أجد أنني أيضًا قد عصرت مشاتل النثر، وصنعت منها عطرًا رششته على ثياب نصوصي السابقة، لذلك عاودت أدراجي إلى قرية العبارات السابقة، وحرصت على أن يكون لكلماتي سحر فتاك). وللوطن صوته المؤثّر وحسّه الممجّد في نفوس هؤلاء الناشئة، فهذه الكاتبة «أثير الخضير» ترسم حروف الفخر بالوطن وتنشده في عنوان «نحن مداك يا وطن» تقول: (نحو غدٍ يعبرُ بنا، يحكي قصصَ النّجاحِ، نحنُ في الأرضِ وعيونُنا في السّماءِ، وبينَ الأرضِ والسّماءِ يتصاعدُ إيقاعٌ متناغمٌ مستمرٌّ، يتجاوزُ حدودَ الكون، هي الرؤيةُ، هي السعوديّةُ العُظمى، هي العمقُ العربيُّ والإسلاميّ، هي الحاضرُ والمستقبلُ، هي مكامنُ القوّةِ، هي قوّةُ الإنسانِ السعوديّ بهمّتِهِ وشجاعتِهِ وعزيمتِه) بهذه اللوحة الكتابية حان لصوت الطفولة والناشئة أن يعتلي المجد.