عبده الأسمري
ما بين ذاكرة المكان وأفكار الإنسان ثمة توافق واتفاق بين سياحة الأرض وواحة العقل ليسمو الإنتاج الأدبي في أبهى صوره وأزهى مشاهده..
دائماً ما تربطني الأماكن باتجاهات الإبداع.. واجد نفسي كثيراً سائحاً بين الحرف والوصف.. قبل سنوات عدة زرت منطقة جازان المقيمة في حضن «الدفء» والساكنة في قلب «التراث» والماكثة في قالب «الأدب».. تجولت في أسواقها الشعبية فوجدت «البساطة» مادة خامًا تحرض صوت الأديب في داخلي لأن يعلو بالشعر من منبع الشعور الذي استعمر وجداني فمكثت غير بعيد عن تلك الوجوه الموسمة بالكدح والموشحة بالمدح في تراحيب أنيقة تكاد ترى بالبصر أراقبها شغفاً وأرصدها وصفاً.. فانطلقت النصوص باحثة عن الورق كي تسجل لحظة المشاعر العميقة المنطلقة من نقطة الحس النفسي والموثقة ببراهين الإحساس الثقافي..
توجهت بعدها إلى جبال فيفا الزاخرة بالكرم «الجبلي» العتيد ورأيت «عناق» الطبيعة بين السحاب والبياض فتفجرت في داخلي ينابيع «القصة» فظللت أكتب قصة ذلك «الشيخ» الوقور الذي يقتنص «الوجوه» الغريبة عن «المكان» ليغمر قلوبهم بالألفة ويعمر أرواحهم بالتآلف في استقبال يتقاطر «جوداً» ويتسطر «وداً». ثم رأيت ذلك الطالب الجامعي الذي انتبذ من أهله مكاناً قصياً ليستذكر دروسه بنقاء ذهني وسط صفاء الطبيعة.. ثم توقفت عند مدخل القرى فوجدت أن المكان جزء من «براهين» الوفاء الذي ألبس الناس هناك رداء فضفاضًا مطرزًا بالنبل.
أكملت رحلة السهل والجبل وبقي الضلع السياحي الثالث وهو «البحر» الذي جعل من جازان عروسًا مغرورة بارتداء أزياء الفصول الأربعة في آن واحد لتعيش بين دهرين من الثبات والتحول أحدهما للمكان والآخر للإنسان.
تجولت على ساحل جازان «البكر» الذي حول المدينة الحالمة بمينائها العتيق إلى «مشروع تنموي» مذهل يرصد فاعلية «السياحة» في صناعة التنمية وفي صياغة الذكريات ورسم مشاهد الثقافة بحبر «اليقين». في تلك الأجواء المفعمة بالتباهي إلى حد الدهشة بين جنبات الشواطئ والواحات كتبت أول فصول روايتي مستلهمًا من «رحلة الحنين» و«ملحمة الطيبين» و«همة الأولين» ألوانًا زاهية رسمت بها «مشهد» الرواية.. ثم غادرت جازان مشمولاً بسخاء مشفوع بحديث الأماكن وأحداث الناس.
بقيت أتحين الربيع الباذخ في جازان أرض «المخلاف السليماني» فما أن تهب نسمات الاشتياق إلى محفل الكتابة الأدبية ألوذ بالانعتاق من روتين الزمن متجهاً إلى أبعاد «التضاريس» حيث أعمد إلى تشغيل شرائط الذاكرة فتأتي «الأفكار» تباعاً بكل يقين ويحل «الاستذكار» متاعاً إلى حين لأمضي في مواصلة الغوص في أعماق السواحل والفيافي والهضاب حاملاً حقيبتي المملوءة بأوراق الزمن والمكتظة بقصاصات «الورق» الذي كان شاهداً على ترابط مهيب بين القلم والمعلم أبرز ذائقة المكان...
بين الإنسان والمكان ارتباط نفسي وحياتي تأتي الثقافة لتجسد «المشهد» من خلال قراءة «الوجوه» واستقراء «المواقف» وتحليل «السلوك» فتتشكل «الذائقة» من عمق «الشعور» إلى أفق «المشاعر» ليأتي الأدب في صوت داخلي يدفع نحو الإبداع وصدى خارجي يشجع على الإمتاع فيكتمل «الإنتاج» بدراً في سماء «التفكير» ويمتثل «المنجز» قدراً في عطاء «التدبير».
كانت رحلات متفاوتة في الأزمنة متقاربة في الأحداث متلاصقة في النتائج حيث كانت السياحة دافعًا أول والكتابة نفعًا أمثل والذكريات «شواهد» على التواءم بين المواهب الإنسانية والهبات المكانية.