إنه يحتلّني، يزحف إلى كل مكان في جسدي، يحرّك أطرافي وأعضائي بجنون وبلاهة حتى أصبح الرائي يحزن لحالي وينعتني بالجنون تارة وبالخرف أخرى. لست بالشيخ الكبير ولم أفقد عقلانيتي، لكن ذاك الشيء في داخلي استطاع الاستيلاء على مراكز التحكم بأطرافي وحركاتي واحدة بعد الأخرى. في البداية راجعت الأطباء وبذلت كثيرًا من المال والطاقة كما الوقت لأنال جوابًا واحدًا «أنت بصحة جيدة». طمأنة الأطباء لا تسمن ولا تغني من جوع حين ترتفع يدي لتصفع شخصًا أو جمادًا تتبعتها ضحكات صادقة صادحة تخرج مني بحرج شديد رغم السعادة التي تعتريني لسبب لا أفهمه.
أخيرًا قررت الاستماع لنصائح أفراد العائلة والمحبّين في مراجعة طبيب نفسي أو حتّى عرّافة معروفة لتفك السحر المعقود كما قال عمي وزوجة خالي. لسبب ما دار في خُلد الجميع أنني رجل مسكون وأن قريني يستولي على مقدراتي لخدمة ملوك الجان. لم ترق لي هذه الاستنتاجات وأنا طبيب معروف بعلمانيتي. لكن مع عجز الأطباء عن إيجاد تفسير علمي اضطررت مجبرًا إلى أخذ اقتراح العرّافة بعين الاعتبار. لقد وجدت لنفسي ألف مبرّر لأقنع نفسي بجدوى زيارة العرّافة ولو على مضض. اختيار الجهة التي سأبوح لها بأسراري ليست بالأمر السهل. هناك أشياء كثيرة لا أستطيع البوح بها، هي مخجلة من ناحية، بل مقرفة لكنها طفولية بريئة إلى أكبر الحدود عندما يقرفها طفل صغير. أما عندما يقوم بها رجل وقور قد تصبح جنحة. استغرقت وقتًا في مناقشة نفسي بين مزايا الطب النفسي التي أعرفها وسرّ العالم الآخر التي يدّعي العرّافون سبرها. لكنني لا أؤمن بعالم الغيبيات!!! نعم مشكلة وجدانية وفلسفية عميقة كما يعتقد كثيرون. لكن المثل الشعبي يقول «إللي بياكل العصي مش متل اللي بعدها»، لكني أتلقاها وأعدها في آن. وبينما كنت على مشارف اتخاذ قرار إذ بيديّ تتحركان بسرعة ثم تبعتهما رجليّ متراقصتان. ارتعدت غير قادر على التحكم بذاتي فجنّ جنوني وصرخت بأعلى صوتي: من يتحكم بي؟ من يحركني بهذا الجنون؟
فجأة خرجت مني ضحكة بريئة، لطيفة تبعها سكون أطرافي فضحك قلبي على هذه المهزلة وتماسكت من البكاء. سمعت صوتًا من داخلي: ما بالك؟ منذ عقود لم أرك تنفعل كالأطفال؟ بل لم أسمع ضحكة قلبك منذ أن طردتني وأهملتني؟
استعذت بالله من الشيطان الرجيم بعدما تأكدت من إصابتي بمسّ جني فلم أقوَ على الردّ. بدأت أسمع بكاء طفل يخرج من كياني تبعه صوت متهدّج: ألهذا الحدّ تكرهني؟ سأتركك وشأنك، سأتخذّ من حناياك المنسية صومعة حتى يموت أحدنا؟
لا أعرف كيف أتعامل مع الأطفال؟ إن كان ما بداخلي طفلًا!!! كما لا أعرف كيف أتعامل مع القرين إن كان ما بي قرينًا. أخذتني الأفكار بالإسراع إلى العرّافة التي كانت من ضمن اختياراتي للعلاج. لكن ما بداخلي لم يمهلني فقال: ما أقساك! لقد نسيت صوتي يا أنا. أهكذا يتصرف الكبار أصحاب الشأن؟
قلت: من أنت؟ بالله عليك من أنت؟
أجاب بثقة: أنا أنت.
أجبته منفعلًا: ماذا؟ وهل أنا مزدوج الشخصية؟ أم جئنا سويًّا من بُعد آخر؟
ردّ ببراءة أستطيع فهمها، لا قبولها: أنا الطفل الذي كنته. أنا من رفض أن يصبح كبيرًا، أنا الصدق والبراءة. أنا طفولتك. أنا بسمتك الساحرة، ونظراتك الهائمة. أنا يا أنا ذاك المنبوذ في حناياك. أنا من اعتزلك بعد إصرارك على التخلّي عن طفولتنا.
قلت: ما دمت قد اعتزلتني كما تقول لماذا عدت؟ لماذا؟
أخذته نوبة بكاء ونحيب وأخذ يحرك يديّ بجنون ويضربها في كل مكان وهو يصرخ: لأنني أحبك وأريد إنقاذك.
فعلًا، لا أدري ما أفعل! أيعقل أن يكون أنا في داخل «أنا»!!! لكنني أعتقد أن هذه الحقيقة أفضل من وجود قرين أو من طفيلي زرعه زائر فضاء في جسدي عبر نحلة أو ذبابة موجّهة. كيف سأعرف الحقيقة وأتخلص منه قبل أن أضطر إلى عيادة الطبيب النفسي الذي سيجرني بالتأكيد في مكان بعيد ويستعين بأهل الزار وكشف الأسرار؟
سألته: كيف لي أن أعرف أنك أنا يا هذا؟
قال: سأخبرك بشرط ألّا تخبر أحدًا.
قلت مضطرًا: قبلت الشرط.
قال: أعرف سرّ غرفة الفئران كما أعرف توابيت جدتي بأسرارها المخفية، كما أعرف كيف سرقنا مُهرة عمي أسعد كذلك.
أقنعني هذا الطفل، فهو يعرف عني ما لا يعرفه أحد، لكن هل يقرأ أفكاري؟ تساءلت
ردّ عليّ فجأة: أنا أنت، أنا بيت أسرارك كيف لك أن تنكرني؟
قدرته على قراءتي في اللحظة ذاتها أذهلتني فقرّرت التوقف عن التفكير مستسلمًا، متسائلًا: ماذا تريد؟
أريدك أن تضمني إليك وتعود طفلًا، نضحك كما نحب، نقفز بين الأشياء، نركض خلف الفراشات نعافر التراب دون وجل. هيا بنا إلى حيث كنّا منذ ستة عقود.
قلت: وهل أنا مجنون لأصدق أنك لم تكبر يومًا منذ ذاك الوقت بينما أصبحت أنا هرمًا. ابتعد عني فلا أنت أنا ولا أريد أن أكون أنت. ما أنت إلّا قرين من وادي عبقَر.
اختفى فجأة، لم يبح بكلمة فارتبت لسكونه وانتظرت برهة من الزمن أتحسس بها جسدي علني أعثر عليه. مرّت الأيام بسكون تام حتى نسيت أيامه العصيبة ومداعباته المريبة. لكن سجن الوقار الذي عاد إليّ لم يعد يناسبه فانطلق من جديد يتراقص بجسدي في عمق زحام المدينة فرأف الناس لجنوني ووارني بعض المعارف في بيتهم حتى المساء وعدت إلى داري خجلًا. بعد أيام وفي ذاك اليوم الماطر حيث كنت ذاهبًا إلى عيادتي سيرًا على الأقدام أخذ ينزع ملابسي دون أن أستطيع المقاومة فأطرافي تحت إمرته، أصبحت شبه عارٍ فوق الرصيف قبل أن تأخذني قدماي إلى وسط الشارع متراقصًا بين حبّات المطر حتى سكرت فرحًا وضحكت معه. جسدي لم يقوَ على مواجهة البرد والمطر ومراقصة سيّارات المارّة وأغصان الشجر فتمزقت عضلاتي وأصبت بذات الرئة. تناقلت وسائل الشبكة العنكبوتية صور الشيخ المجنون، الطبيب الذي أصيب بلوثة. عزا معظم الناس الأمر إلى الضائقة الاقتصادية وسجن كورونا العام الذي أصابني برُهاب غريب. تنكّر لي أفراد أسرتي وأعلنوا أنهم لا يعرفونني فتشابه الأسماء لا يعني صلة الدّم. أخيرًا حضر الطبيب النفسي إلى المستشفى الذي أتعالج به. لم أخبره بشيء من الحقيقة واستنبطت حججًا واهية لا تُقنع أحدًا. أمر لي ببعض الأدوية وقال محذرًا كأنما يحثني على البوح: يا زميلي إذا لم ينفع هذا العلاج سأضطر لنقلك إلى مستشفى الأمراض النفسية.
ما إن أصبحت وحيدًا حتى قلت لطفلي المسيطر: عليك أن تركن جانبًا حتى لا نموت في مستشفى المجانين.
ضحك وقال: هذا ما أريده، هناك نلعب مع كل الأطفال الكبار دون خجل. ننام على الأرض، نكسّر الأطباق ونقفز على السرير، بل سأدعك تلعب مع رفاقي من أطفال الجن والعفاريت.
قلت: ماذا؟ اسكت أيها اللعين. سأخبر الطبيب عن هوسك وجنونك.
قال: أرجوك افعل حتى يتأكد من جنونك ونذهب إلى «الملهى» بسرعة. هناك سأشد شعر الممرضة وأضرب الأطباء، بل سنقفز من الشباك إلى الحديقة لنداعب القطط كما كنا قبل أن تفارقني.
رددت بحزن: اسكت، لم أعد طفلًا.
قال: لكنني ما زلت طفلًا، رفضت أن أكبر، أن أخمد خيالي، أو أن أنصاع لعالم التصنُّع. أنت من تغيّر. أنت أراد أن يصبح «محترمًا» فكتمت مشاعرك وقضيت على أجمل الأيام، بل أنت من استيقظ من حلم الطفولة. ليتني أستطيع مقاضاتك لمحاولاتك الحثيثة قتلي. هربت منك، اختبأت بين حناياك لستة عقود خلت، وما إن وجدت فيك ضعفًا تملكت أطرافك لأفعل ما أحب، لقد استعدت جسدي، لكنه ما عاد ذاك الجسد الذي سكنّاه منذ أمد بعيد. لقد قتلتَه بالكسل وقلّة الحركة، ثم أطبقت عليه بالحزن والحقد وتوافه الأمور التي اعتبرتها وظيفة ذات شأن.
صرخت به: اسكت، أنا طبيب مشهور.
قال: أنت رجل مقهور، قتلك الغرور. تحيا في جسد ميت فرحًا بما تملك من ألعاب عالم الكبار.
لم أتحمل كلماته فصرخت به: دعني واذهب حيث تريد.
قال: أبَعد أن سرقت طفولتي وحطّمت جسدي، بعدما قتلت براءته وبراءتي؟ اذهب إلى غير رجعة. لن أبرح هذا الجسد، لن أدعك تتصرف به بعدما قتلته بموبقات الكبار من شراهة الأكل، وإرهاقه بالتعب والسهر. لقد أنسيتني طعم الحليب، وغزل البنات وسرقة الليمون من بساتين الجيران. مُت أيها الشيخ الطبيب ودعني أراقص الحياة كما يجدر بطفل شقي يبحث عن حشراته بين عيدان الحمّيضة. أرى أنك نسيت لسعة الحميضة ولذّتها عندما تغمسها بالملح!
قلت بصوت حازم، مرتفع: أسكت، لا أحتملك لن أعود طفلًا غبيًا.
ضحك كثيرًا وبدأ يرقص بجسدي، يقفز تارة ويركض أخرى حتى أعياني فغبت عن الوعي.
استفقت على سرير غريب لم أعرف مكانه حتى دخل ممرض أدركت من اسم المستشفى على ردائه أنني في مصحة الأمراض العقلية.
انزويت إلى فراغ بين حناياي هاربًا من واقعي، ساخطًا على طفل كان أنا. طفل يسعد بحياة الفقر والعذاب وأنا أعاني من المعرفة والثراء وتوفر الأشياء. لم أعرف كيف أحلّ هذا اللغز، بل كيف بقي طفلي حيًا. لم يمهلني كثيرًا لأنه يقرأ أفكاري، جاء مسرعًا إلى زاويتي، رأيته للمرة الأولى منذ ستة عقود. فعلًا هو أنا، ابتسمت، شعرت بالحياة التي قطع حبلها قائلًا: ابقَ هنا حيث بقيت أنا عقودًا و(عاني) من الوحدة كما عانيت. سأنطلق للحياة مستمتعًا بكل صوت ونسمة، بكل حفنة تراب ورعشة زهرة، لن أنام إلّا على الأرض لأشبع من فراقها، لأنتشي من لسعات الشمس وحبّات المطر.
قلت: نعم، ما زلت طفلًا لا تقدّر عواقب الأمور. جسدي لن يتحمل جنونك.
قال: قلت لك (انزوي)، سيحيا من جديد لأنه سيتغذى على طفولتي ويتخلص من سنواتك العجاف، من سموم عمرك المتراكم. دعني أعيش أيها الميت.
أقفل باب تلك الحجرة من حناياي بضحكة مزلزلة ولم يعد قط.
** **
- محمد إقبال حرب