أسعفني حظي بمقابلة الأستاذ الشاعر السيد عدنان العوامي في مجلس أو مجلسين من مجالس الأدب، في لقاءات تعارفية خفيفة على هامش الحوارات التي تدور بينه وبين الحاضرين من أهل الفكر والأدب. وكنت دائما أرى فيه رجلا وقورا في منتهى الاحترام، يسبقه ذكره الطيب وموسوعيته الفكرية، وتغلب على محياه البساطة المتناهية والتواضع الجم، غير أنه ليس ممن يغريك بحديث عابر أو نكتة خفيفة تقرب المسافات عادة بين الناس.
وأنا على كل حال باعتباري لنفسي «ضيفا» على دوائر الأدب، أسمع كثيرا وأقول النزر اليسير إن وجدت ما أقول، لم أجرؤ مرة على القرب منه والتحدث إليه، خشية أن يحاصرني بفيض من علمه وثقافته فأنكفئ خجلا. ولن أذهب في التعليلات عن حرمان نفسي من مجالسة هذا القامة الرفيعة والحديث معه والاستماع إليه والنهل من ثقافته وعلمه وحلمه وتواضعه، وأن أكتفي فقط بقراءة بعض مما يتيسر لي منه في الصحف والمجلات من هنا وهناك.
ومن هنا فلم أكن أعرف شيئا عن حياته ومسيرته الفكرية والأدبية أو أجتهد في السعي إلى ذلك - رغم قرب المسافة المكانية معه وسهولة وصولي إليه - سوى شذرات من لقاءات عفوية من هنا وهناك. إلى أن اطلعت على هذا الملف الجميل الذي أعده معارفه ورفاق دربه الفكري ملحقا من ملاحق صحيفة الجزيرة.
لقد أسبغ علي هذا الملف الملحق لباسا من المعرفة أذهلني عن هذا الأديب المكافح بكل المعاني. شخص «ناقص الطفولة» كامل الرجولة. لم يتعلم في المدارس ولم يسرف في اللعب كحالنا في طفولتنا. كان عاملا كادحا عندما كنا نلهو بشغف مع أقراننا. لم نره في المزارع والنخيل، ولم نره على السواحل والأسياف، ولم نره في ملاعب الكرة، ولم نره يرتاد المقاهي ويلعب الكيرم والدومنة والدامة ويشاهد معنا سلسة الأفلام العربية وأفلام الكاوبوي وغيرها من برامج تلفزيون أرامكو. ولم نره أيضاً على كراسي الدراسة منغمسا مثلنا في كتب المطالعة ومنكبا على كراسة الخط، ومنهمكا في مواضيع التعبير التي يمكن أن تصنع كاتبا أو أديبا، لكنها لم تصنع منا إلا قراء لشعره وأدبه وفكره وقلمه الصقيل.
أكاد أشك أن ما صنع هذا المفكر الجميل وكوّن شخصيته هي «مجالس عائلية» أو «حروف باكستانية» أو «صالونات أدبية» أو قصاصات الصحف والمجلات التي كان يلاحقها ويثابر على اقتناصها وقراءتها. كلنا تعلم الحروف وتعرف على صالونات الأدب بصورة أو بأخرى. غير أننا لم ننتج شعرا رقراقا أو أدبا بديعا أو فكرا عميقا أو تحقيقات رصينة أو ترجمة أدبية رفيعة. لابد أن ثمة بذرة لطيفة مغروسة داخله منذ الصغر ولابد أن نبعا طيبا سقاها فأنتجت نخلة وارفة وظلا ظليلا.
لي صديق مشترك معه أحببت أن أطرح عليه هذا السؤال بإلحاح، كيف أصبح شاعرنا الكبير السيد عدنان كما أصبح؟ فرد عليّ بعد لأي طويل «تخلى يا أخي عن هذه التساؤلات المشوّهة لئلا تصيب الرجل وينضب معين عطائه الجميل». وكان صاحبي بمداعبته المعتادة يقصد الحسد أجارنا الله وإياكم.
غير أن السؤال ما يزال يرن في أذني. لو أننا عرفنا كنه هذا المفكر العصامي، هل نستطيع استخدامه نموذجا لصناعة المفكرين في بلادنا؟ أو هل نستطيع أن نعطيه صفا مدرسيا من الصفوف التي لم يعرفها في طفولته لكي يخرج لنا مبدعين في شتى المجالات؟
ألسنا حقا بحاجة إلى مدرسة في العصامية؟؟
** **
- عبد اللطيف العبد اللطيف