قرأتُ تعقيباتٍ من لغويٍّ بارعٍ، سادَ بلغتِهِ، وامتازَ بأسلوبهِ، وحضرَ بأفكارِهِ، وقصرَ تأويلُهُ عن مرادِ المقالِ وذلك في صبيحةِ يومِ الخميسِ اليوم العاشر من جُمادى الآخرة من العامِ الثالثِ والأربعينَ وأربعمائة وألف من الهجرةِ النبويَّةِ الشريفةِ المباركةِ، ولم أعلمْ بهذه التعليقاتِ إلا في هذا اليوم الأغر.
وبعدَ قراءةٍ متعمقةٍ لهذهِ التعليقاتِ المباركةِ، وإن كان يسودُها الاستطرادُ المخل، وتظهرُ فيها التأويلاتُ الّتي تخالف مراد المقال، وفَرْضُ آراءٍ وكأنَّها هي الصوابُ وغيرها اعوجاج، ورمزيَّة لم يُوفقْ في تفسيرها؛ لذا حامت حولها أسئلة لم تصل إلى إجابة موفقة.
o ألم يعلمْ كاتبُها بأنَّ الأوجهَ النَّحويَّةَ تتعددُ بتعددِ التَّوجيهِ والوظيفةِ النَّحويَّةِ! أين الكاتبُ من مسألةِ -مثلاً- تطابق الوصف مع الفاعل إفراداً وتثنيةً وجمعاً كما في (أقائمٌ زيدٌ) نصّ النحاة في هذه المسألة على قولهم: «جاز فيه وجهان» مع أن الحالة النطقية واحدة، وهما:
- الوصفُ مبتدأٌ وما بعدَهُ فاعل سدّ مسدّ الخبر.
- الوصفُ خبرٌ مقدَّمٌ وما بعدَهُ مبتدأ مؤخر.
وعلى هذا سارَ النَّحو العربيُّ في تقسيم جمع المذكرِ السالمِ وما ألحق به إلى ستة أوجهٍ حصرتها من خلالِ محددينِ هما: الإعراب وعلاماته أو التوجيه والوظيفة الإعرابيَّة.
الوجه الأوَّل: ذهبَ إليه الحجازيونَ وبنو قيسٍ في جمعِ المذكرِ السالمِ إلى إعرابِهِ بالعلاماتِ الفرعيَّةِ بالواوِ رفعاً وبالياءِ نصباً وجراً.
الوجه الثاني: ذهب التميميونَ وبنو عامرٍ إلى إلزامِهِ الياءِ وإعرابه بالحركاتِ الظاهرةِ، وعليهما وردَ الحديثُ الشريفُ: (اللَّهُمَّ اجعلْها عليهم سِنيناً كِسِنينِ يُوسفَ) وفي رواية: (كسِنِي يُوسفَ).
الوجه الثالث: ذهبَ قومٌ إلى إلزامِهِ الواو وفتح نونه وإعرابه بالحركات المقدَّرة.
الوجه الرابع: منهم من ألزمه الواو وأعربه بالحركات الظاهرة.
الوجه الخامس: أجراه بعضهم مجرى جمعِ التكسيرِ في بعضِ الكلماتِ كسنين وأرضين.
الوجه السادس: منهم من زادَ عليه وجهاً سادساً يجريه مجرى المفردِ كمسكينِ وغسلينِ كقولِ الشاعرِ سُحَيم بن وَثيل الرِّياحي:
وماذا تبتغي الشُّعراءُ مِنِّي وقدْ جاوزتُ حَدَّ الأربعينِ
وسار على هذا التقسيم والتفصيل بعض النُّحاة كمحمَّد محيي الدين عبد الحميد وغيره.
o كلمة (سداسي) تربو استعمالاتها على العشرين، نحو ما ذكره أبو علي الفارسي بكتابه الحجة في باب الظرف: «تقول معي فوق الخماسي ودون السداسي ولك السداسي وفوقه، وجئتك بسداسي أو فوقه وهو بالبصرة أو دونها فكل ذلك نصب» يريد الظرف لا العدد، ومثله ما ذكره رضي الدين الاستراباذيّ في شرح الكافية في باب الممنوع من الصَّرف، قائلاً: «يُستعمل على وزن فُعاَل من واحدٍ إلى عشرةٍ مع يائي النسبِ، نحو: الخماسيّ والسداسيّ والسباعيّ والثمانيّ والتساعيّ»، وعلى هذا عنوان المقال في سياق العدد؛ أي الوجه السادس، لا يمنع استعماله على وزن (فُعال) مع ياء النسب، بما أنَّه وجه من وجوه العربيَّة، ناهيك عن أنَّه يخرج عن العدد -خلاف ما ذكره الكاتب- نحو قول الفيوميّ: «يقال في الرقيق والوصائف سداسيّ».
o كلمة (عريضة) تنطبق على القاعدة، لأنها تحمل معاني ودلالات كثيرة، مثل: دعاء عريض أي كثير ومستمر، وعريض البطان أي غنيّ، وقاعدة عريضة واسعة تستوعب نماذج كثيرة، وهذه مما تتميز بها اللُّغة العربيَّة، ولعلَّها هي الأصدق في هذا السياق، وفي علم الدِّلالة مبتغاك.
o (مرونة اللُّغة) يقصد بها طواعية اللُّغة وذلك في تحولاتها، والحرية في حراك عناصرها داخل التراكيب، وليست اللُّيونة -كما ذكرها الكاتب- يبدو توقّف الكاتب على المعنى المعجميّ، ولم يدرك جيداً المعنى السياقيّ، والمعنى التركيبيّ، والمعنى العرفيّ .
o (يوسع حاجراً) يُقصد بها في المقال (يوسع أمراً حاجراً)، أمَّا (محجَّر) فهو من تأويل الكاتب ليس هو مراد المقال، جاء على نسق العبارة المشهورة عند اللُّغويين، ووضعت بهذه الصورة لغرض المقال (من الرموز الَّتي قصدها المقال).
o الإحاطة في العلم مستحيلة، وإصدار الحكم ممكن بشرط أن يكون من عالمٍ مطّلعٍ بذاك الحكم وتبعاته، وهذا مراد قوله: « لا يُحيطُ بها بشرٌ، ولا يَحكمُ بها إلا مُطَّلعٌ».
o طرح الأسئلة المتباينة، وتعدد الاحتمالات والتفسيرات منبعها حيرة في نفس الكاتب جاءت من الرمزية الَّتي هي موطن قوة النَّص؛ لكشف المضامين الكامنة في النص، وحتَّى لا يكون النَّص مكشوفاً مبتغاه الطرقات -لا كما يظن الكاتب- .
o على العربيّ ألا يستعمل إلا ما قد تأكد من فصاحته، وسهر على تنقيحه وتعب، ومع ذلك لا يحيط اللُّغة علماً مهما تعب وسهر، فقد يستعصي عليك وجه لا تظنه فصيحاً؛ لأنَّه لم يرد عن العرب، لكنَّه قد يكون فصيحاً لأنَّ الذين تكلموا به قد بادوا، وهذا تفسيرُ قوله: «ولا تمتطيّ إلا ما قَدْ ذلَّلْتُهُ برِكابِ السهرِ والتعبِ، يستعصي عليك وجهٌ تكلَّمتْ به أقوامٌ قد بادوا في العصورِ الأولى لَمْ يصلْنا».
o قد تتشوَّهُ الكلمةُ الفصيحةُ معَ مرورِ الزمنِ وتتغيّرُ صورتها، وقد تحافظ على صورتها الفصيحة؛ لأنَّها تسيرُ على سَنَن العربيَّة، حتَّى لاحت لنا برقاً يتلألأ، وهذا تفسيرُ قوله: «أو تبدَّدتْ جنباتُهُ مَع مرورِ الزمنِ، ظهرَ بعدَهَا مُشَوَّهاً لا يُلقى له بالٌ، أو احتضنتَهُ أيادي العلمِ، يترعرعُ بينَ كنفاتِها حتَّى لاحَ بَرْقَاً يتلألأُ».
o الكلمة عندما يحدث لها تطور تتكوّن من صورتينِ، هما: الصورة الأولى قبل التَّطور، والصورة الثانية بعد التَّطور، وبينهما فترة التّطور وهي فترة التَّغيير والتَّبديل والتَّحويل، فترة السبات العميق -من باب المجاز- حتّى ظهرت لنا صورة مطوّرة، وهذا تفسير قوله: « ثمَّ سَارَ إلى مَهْدِ التَّطورِ في سباتٍ عميقٍ يرقدُ، ثُمَّ يتمخضُ بوجهٍ جديدٍ قد ظهرتْ قسماتُهُ تتوهجُ، وحبورُنا عندما يَتَكَشَّفُ لنا وجهٌ منه نظنُهُ قَدْ مَاتَ فإذا هو حيٌّ يسعى».
o الآية الكريمة ليست قاعدة لكن نستنبط منها القاعدة النَّحويَّة؛ لأنَّ القرآن الكريم هو المصدر الأوَّل من مصادر النَّحو العربيّ (السماع) .
o تكلمت عن قضية الاستشهاد بالحديث الشريف لا الحجاج كما في قوله: «قضية الاستشهاد بالحديث الشريف تحلَّل برأيي»، ورأيي في هذا الجانب ذكرته لا أحيد عنه، وأوافق فيه ما ذكره -شيخنا- أبو أوس الشمسان: « قضية الاستشهاد بالحديث الشريف تحلَّل من جانب حرص العربي على صحة المروي، إذ لا يستشهد بالمروي بالمعنى، وخير شاهد لذلك قول سفيان الثوري (إن قلت لكم إنّي أُحدِّثكم كما سمعت فلا تصدِّقوني) إنمَّا هو المعنى، والمتأمل لبعض الأحاديث يدرك هذه الحقيقة؛ لكونها تروى بأكثرِ من لفظٍ.
ولكثرة رواية الأعاجم كما ذكر ابن جماعة وهو ممَّن أخذ عن ابن مالك: «قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنَّه ليس من لفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يجب بشيء».
وسَقَطَ الاستشهاد به عند بعضِ المحدثينّ لجواز روايته بالمعنى وفي ذلك مناقشات مبنية على ما ذكره القدماء لا تخرج عنه، وتفسيرات تدور حوله.
ولا يُحمل الاستشهادُ بالحديثِ على الاستشهادِ بالشعرِ -حتَّى لا يُفسر بالعاطفةِ- إذ ذكر أستاذنا أبو أوس إبراهيم الشمسان -في إحدى مقالاته- بأنَّ «كثرة الشواهد الشعرية لا لسهولة حفظها ولا لكثرة نصوصها بل لكثرة ما يقع فيها من مخالفات يعاند فيها الشاعر ما جاءت عليه العربيَّة المشتركة المبنية على جمهرة الاستعمال العربي، وهو ما دعا النحويينَ إلى الاعتذارِ للشعراء بأن يقال إن هذا خاص بالشعر، وأن يقال إن هذا ضرورة شعرية، أو هو شذوذ في الاستعمال»، هذا كفيل بكشف حقيقة الضرورة الشعريَّة والاستشهاد بها.
أمَّا الحديثُ الشريفُ فوضعتْ نصوصه لبيانِ أحكامِ الدين الإسلاميِّ سواء أكانت في المعنى أو اللَّفظ، فإن وافقت القاعدة النحويَّة لفظه يستشهد به، هذه حقيقةٌ يجب الانطلاق منها في مناقشة هذه القضية، وهذا هو المنهجُ السليمُ الَّذي سار عليه القدماءُ في الاحتجاجِ، وكذلك في جمعِ العربيَّة من القبائل المحددة.
أمَّا قول صاحب التعليقات «لا كما أورده الكاتب» فهذا في نظر كاتبها لا تعني المقال، ولم أذكر الاحتجاج على أنَّه من الاستشهاد -لا خلط هنا كما زعم الكاتب- بل نوضح بأنَّ اللُّغويين ساروا على هذا المنهج في الاستشهاد، والاحتجاج، وجمع اللُّغة.
** **
- د. فهد بن سالم المغلوث