قال أعرابيٌّ في نجد: مُطِرنا لليلتين بَقِيَتا من الشهر، فاندحّتِ الأرضُ كلأً؛ أي: اتسعت بالكلأ. وتقول العرب: اندحّتْ خواصِرُ الماشِيَة اندِحاحًا؛ إذا اتّسعت وتفتّقتْ من أكل البَقل، واندحّ بطنُ الرجُل إذا اتسع. وفي الحديث: كانَ لأسامةَ بطنٌ مُنْدَحّ(1).
وهذا الفعل (انْدَحّ) مشكل، ويتداخل فيه أصلان أو جذران: (دحح) و(ندح) والنون فيه صالحة لأنْ تكون زائدةً ولأنْ تكون فاءَ الكلمة، وهي سبب الالتباس، فيحتمل بوجودها وزنين: (انْفَعَلَ) و(افْعَلَّ)، والبنية الصرفيّة لهذا اللفظ تقبل الوجهين. فاختلط الأمر على المعجميّين، فمنهم من وضعه في (د ح ح) ومنهم من وضعه في (ن د ح) ومنهم من حار فيه فوضعه في الموضعين. وخاض فيه خائضون، منهم من يقول: إنه من (د ح ح)، ومنهم من يقول: إنه من (ن د ح)، وخطّأ بعضُهم بعضًا.
وخلاصة ذلك أنّ لهم في أصله ووزنه ثلاثةَ مذاهب:
الأوّل: أنّه من (د ح ح) ووزنه (انفعل):
وهو مذهب ابن دريد في الجمهرة، والأزهريّ في التهذيب، وابن فارس في المجمل والمقاييس، والزمخشريّ في الفائق، وابن القطّاع في الأفعال. قال الصغانيّ في التكمله في مادّة (ن د ح): «ذكر الجَوهريّ: انْدَحَّ بَطْنُه وانْدَاحَ، في هذا التَّرْكيب، والأوَّلُ مُضاعفٌ والثاني أَجْوَفُ، وليس هذا التَّركيب موضعَ ذِكر واحدٍ منهما»(2)، وتَبِعَه الفيروزي في القاموس(3)، وقال إن موضعه (د و ح).
الثاني: أنه من (ن د ح) ووزنه (افْعَلّ):
وهو مذهب ابن برّي في التنبيه والإيضاح، قال مُغلّطا الجوهريّ: «أمّا اندحّ بطنه فصوابه أن يُذكر في فصل ن د ح؛ لأنه من معنى السّعة، لا من معنى القِصَر. ومنه المُنتَدَح للمكان الواسع. والنَّدْح أيضًا: الأرض الواسعة، ومنه قولهم: لي عن هذا الأمر مندوحة، ومنتدح؛ أي: سعة. ومما يدلّك على أنّ الجوهريّ وَهِمَ في جعله انْدَحَّ في هذا الفصل كونه قد استدركه، فذكره في فصل ن د ح، وهو الصحيح. ووزنه (افْعَلّ) مثل احمرّ. وإذا جعلته من فصل د ح ح فوزنه (انْفَعَلَ) مثل انسلّ انسلالا، فكذلك اندحّ اندحاحًا. والصواب هو الأوّل»(4).
وتبعه الصَّفَديّ في نفوذ السهم، وقال ردّا على الجوهريّ: «هذا سهو منه، رحمه الله تعالى، وكان من حقّه أن يُذكر في ن د ح فصل النون من هذا الباب، والمنتَدَح المكان المتّسع، والنَّدْح الأرض الواسعة، ومنه قولك: لي في هذا الأمر مندوحة، فلو كانت النون زائدة لما زيدت الميم أيضًا، وقد استَدرك هذا الغلط، وذكره في فصل ن د ح، فاندحّ وزنه افعلّ، مثل احمرّ، ولو كان مثل ما قال لكان وزنه انْفَعَلَ، مثل انسلّ انسلالا وانحلّ وانفلّ»(5).
وتبعهما في التغليط ابن الطيّب الفاسي في إضاءة الراموس وتلميذه الزَّبيدي في التاج، وغيرهم.
والثالث: مذهب الحائرين فيه الذين جعلوه في الجذرين:
ومنهم الجوهري في الصحاح، وابن منظور في اللسان، وابن معصوم في الطراز الأول، والزَّبيدي في التاج، والتادلي في الوشاح، ومذهب الحائرين هذا هو أضعف المذاهب؛ لأنّ اللفظ الواحد لا يكون إلا من جذر واحد، وصناعة المعجم تقتضي الاختيار، مع إمكان الإشارة إليه في الجذر الملابس من أجل الإحالة وتنبيه المخطئين والغافلين.
رأيي في جذره ووزنه:
رأينا أنّ (انْدَحَّ) يحتمل من جهة الصنعة الصرفيّة وزنين (انفعل)، كانصبّ الماءُ، و(افعلّ) كاحمرّ، والمعنى يقبل الوزنين، ففي الجذرين (د ح ح) و(ن د ح) معنى الاتساع، وليس لأحدهما فضل أو مزيّة تجعله يترجّح على الآخر، خلافًا لما ادّعاه ابن بري ومن تبعه، ففي (د ح ح) في المعاجم: الدُّحُح: الأرضون الممتدّة؛ ودَحَّ الشيءَ؛ أي: وَسَّعَه، فهو مَدحوح، قال ابن فارس: «الدّالُ والحاءُ أصلٌ واحدٌ يَدُلُّ على اتِّساعٍ وتَبَسُّطٍ. تقولُ العَرَبُ: دَحَحْتُ البيتَ وغيرَه، إذا وَسَّعْتَهُ. وانْدَحَّ بَطْنُهُ إذا اتسع»(6). وجاء في ندح قول ابن سيده: «النَّدْحُ والنُّدْحُ: السّعة. والنَّدْحُ: ما اتَّسع من الأرض. والجمع أنْداحٌ. وكذلك النَّدْحَةُ والنُّدْحةُ والمنْدوحَةُ. وَأَرْض مَندوحَةٌ: وَاسِعَة بعيدَة، وقالوا: لي عن هذا الأمر مندوحة؛ أي: متسع»(7). وقول ابن فارس: «النُّونُ والدّالُ والحاءُ كلمةٌ تَدُلُّ على سَعَةٍ في الشَّيء. من ذلك النَّدْحُ: الأرضُ الواسِعَةُ»(8).
وحين يتساوى الجذران في الدلالة أو يتقاربان ويصحّ توجيه اللفظ في الاشتقاق إلى كلّ منهما يبطل الاحتجاج بالدلالة في حسم الخلاف، ويبقى التعويل على الصنعة وحدها، ومن الصنعة الاستعانة بنظرية الثنائيّة في نشأة الجذور، وهي معينة هنا، إذ نرى ثلاثة ألفاظ متقاربة، وهي اندحّ الشيءُ وانداح واندحى، كلها بمعنى اتّسع، وهي من ثلاثة جذور مختلفة، (مضعّف وأجوف وناقص) وعند تأملها يظهر أنها متطورة من الجذر الثنائي (المضعّف) أو من لفظ اندحّ نفسه بفك التضعيف بالإبدال هكذا:
دحّ ) د وح/ دحو (أو ديح/ دحي.. بالواو أو الياء وهما يتداخلان كثيرا)
أو: اندحّ ) انداح/ اندحى
فهذه الثلاثة من أصل واحد قديم، ووزن انداح واندحى (انفعل) لا غير، فيُحمل اندحّ على شقيقيه أو ابنيه (مفكوكيه)، وبهذا يُعلم ضعف قول ابن برّي وغيره إن اندحّ (افعلّ) من ن د ح، فمفكوكات هذا الجذر الثنائي (دحّ) تُرجّح (انفعل) لـ(اندحّ)، وأنّ جذره (د ح ح) لا (ن د ح)، وهذا ما أميل إليه.
... ... ... ... ...
(1) ينظر: العين (ن د ح) 3/ 184، والصحاح (ن د ح) 1/ 410، والمقاييس (د ح ح) 2/ 265، والتاج (د ح ح) 6/ 359، 360.
(2) التكملة والذيل والصلة (ن د ح) 2/ 116.
(3) القاموس (ن د ح) 312.
(4) التنبيه والإيضاح (د ح ح) 1/ 233، 234.
(5) نفوذ السّهم 143، 144.
(6) المقاييس (د ح ح) 2/ 265.
(7) المحكم (ن د ح) 3/ 195.
(8) المقاييس (ندح) 5/ 413.
** **
- عبدالرزاق الصاعدي