في ديوان (رفيف الأقحوان) لنقولا فياض تطالعنا ص 19 ترجمته لقصيدة الشاعر الفرنسي (ألفريد دي موسيه) Alfred de Musset بعنوان (اذكريني). وقد أعادتني هذه القصيدة المترجمة لقصيدة بالعنوان نفسه لأحمد رامي شدتْ بها أم كلثوم سنة 1939.
رجعت إلى قصيدة رامي في ديوانه المعنوان بـ (ديوان رامي) ص 199 - 200 وأخذت أوازن بين القصيدتين، وانتهيت إلى ما يلي:
- القصيدتان تتفقان في العنوان، وفي الشطر الأول من البيت الأول: اذكريني كلما الفجر بدا
- كلتا القصيدتين تتألفان من ثلاثة مقاطع، لكن عدد أبيات كل مقطع عند نقولا خمسة، وعند رامي ستة.
- كلتا القصيدتين من بحر الرمل، إلا أن رامي استعمل مجزوء الرمل في البيتين الثالث والرابع من كل مقطع.
- جعل فياض لكل مقطع قافية تختلف عن قافية المقطع الآخَر، لكنه التزم بروي الراء المكسورة في البيت الأخير من كل مقطع، بل جعل كلا منها ينتهي بكلمة (اذكري). في حين أن رامي التزم بروي الهمزة الساكنة لأول بيتين من كل مقطع، وجعل الأبيات الأربعة التالية مصرعة مع تغير القافية في كل بيت. والتزم بقافية النون للبيت الأخير، وختمه بكلمة (واذكريني).
- يبدأ كل مقطع عند الشاعرين بكلمة (اذكريني) ويتبعها بالظرف الذي يريد من محبوبته أن تذكره فيه. فياض يريدها أن تذكره: (كلما الفجر بدا / إن غدا صرف القدر / عندما ألقى المنونْ). ورامي: (كلما الفجر بدا / كلما الطير شدا / كلما الليل سجا).
ولد ألفريد ده موسه Alfred de Musset - الذي ترجم نقولا فياض قصيدته - سنة 1810 وتوفي سنة 1859 ونظم قصيدته هذه بعد انتهاء عشقه الجنوني لـ (أمانتين لوسيل أورور دوبان) Amantine Aurore Lucile Dupin الروائية الفرنسية التي كانت تكتب باسم (جورج صاند)، فقد أودعها كل مشاعر الألم والإحباط. وكان يمكن لصدمة الفراق أن تكون أقل تأثيراً لو أن سبب فراقهما من الأسباب اليسيرة التي يمكن استدراكها، كما يحصل في معظم قصص الحب، لكن السبب أنها تخلت عن حبيبها موسيه، واستبدلت به الطبيب الإيطالي الذي عالجه من المرض الذي أصيب به في رحلتهما الأخيرة لمدينة البندقية.
وقد وضع أكثر من ملحن فرنسي ألحانا لهذه القصيدة منهم (جورج روبيس)، وقد يكون هذا من الأسباب التي جعلت رامي يقدم قصيدته لأم كلثوم لتغنيها.
ومعروف أن نقولا فياض معاصر لأحمد رامي، وإن كان يكبره بنحو عشرين عاما، (نقولا فياض: 1873 - 1930، وأحمد رامي: 1892 - 1981) وقد أمضى كل منهما سنين من عمره في باريس للدراسة، ولكل منهما ترجمات لأعمال أدبية من الفرنسية. فهل قصيدة (اذكريني) لأحمد رامي ترجمة أخرى لقصيدة موسيه؟!.
إن المتأمل في قصيدة رامي لا يجد فيها تلك السوداوية التي صبغت قصيدة فياض، فهي مجرد استدعاء ليالي الوصال السعيدة ليس غير، وبالتالي لا تعبر عن روح موسيه. أما ترجمة فياض فتعبير صادق لما يحس به من آلام الحب الذي انتهى، والفراق الذي لا رجعة بعده، فهو يطلب منها أن تذكره عندما يفترقان فراقا أبديا؛ أوضح في المقطع الثالث أنه يقصد به المنون. وأترك الحكم للقارئ الكريم عندما يقرأ القصيدتين.
وفيما يلي المقطع الأول من قصيدة كل شاعر:
المقطع الأول من قصيدة فياض:
اذكريني كلمـا الفجـر بـدا فاتحا للشمس قصر العجبِ
واذكرينـي كلمـا الليل مضـى هائمـا ملتحفـا بالشهب
وإذا مـا صـدرك ارتـج علـى نغـم اللذات وقـت الطرب
أو دعـاك الظـل يا مـيُّ إلى لذة الأحـلام عند المغرب
فاسمعي من داخل الغاب صدى هاتفٍ فيها يناديك: (اذكري)
أما المقطع الأول من قصيدة رامي فهو:
اذكرينـي كلمـا الفجـر بـدا ناشرا في الأفق أعـلام الضياء
يبعـث الأطيـار من أوكـارها فتحييـه .. بترديـد الغنـاء
قـد سـهرت الليـل وحـدي بيـن آلامـي .. ووجـدي
وانجلـى الصـبح وهـلَّا وانطـوى الليـل .. وولَّـى
فتذكرتُ الذي طـاف بسـمعي إذ مزجت الكأس في كفي بدمعي
وجرى دمعيَ من فـرط حنيني فارحمي قلبي وحنِّي (واذكريني)
وبعد الفراغ من مسودة هذا المقال وجدت قصيدة بالعنوان نفسه (اذكريني) لعبد القادر القط (1916 - 2000) في العدد (768) من مجلة الرسالة لعام 1948 ص 44، من مجزوء الرمل مؤلفة من خمسة مقاطع وفي كل مقطع ستة أبيات، يختلف روي الأبيات الأربعة الأولى في كل مقطع عنه في المقاطع الأخرى، في حين يتوحد الروي في البيتين الأخيرين بالنون المكسورة ليكون ختام كل مقطع كلمة (واذكريني) كما فعل رامي.
وواضح من مطلع القصيدة أنه يأسى على الفراق وكأنه يحاكي (موسيه) في مأساته العاطفية. يقول في المقطع الأول:
افترقنا فاذكري الماضي ولا تنسَيْ صداهْ
والمحي في كل محزون خيالا من رؤاه
وإذا طالعت في دنياك ألوان الحياة
من شقاء وصفاء ومهانات وجاه
فأطيلي وقفةَ الآسي على النُّبل المهينِ
وصُبابات أمانيَّ وجاه واذكريني
ثم وجدت قصيدة رابعة بالعنوان نفسه، ولكن من بحر الخفيف، لإبراهيم محمد نجا (1919 - 1969) منشورة في (الرسالة) العدد (854) لعام 1949 ص 28 - 31. والقصيدة مكونة من عشرة مقاطع وكل مقطع من ثمانية أبيات، ما عدا المقطع الأخير فهو من اثني عشر بيتا، أي أن مجموع أبياتها أربعة وثمانون بيتا. وكل مقطع ملتزم بقافية واحدة، لكنها تتغير في كل مقطع.
وقد التزم الشاعر بالتصريع في مطلع كل مقطع، مع بدء كل مقطع بكلمة (اذكريني) ما عدا المقطع الأخير. وواضح أنها ليست معارضة لموسيه أكثر منها مجاراة لسابقيه، لأنه يذكر بعد حبيبته؛ هي في الشام، وهو في مصر، فيقول:
نحن روحان عاشقان، ولكن ... بيننا في اللقاء شيء رهيبُ
أنت في الشام يا شقيقة نفسي ... وأنا هاهنا بمصر غريب!
** **
- سعد عبد الله الغريبي