الثقافية - محمد صالح الهلال:
نظراً لأهمية موضوع المحاضرة التي ألقاها الدكتور عثمان الصيني رئيس تحرير صحيفة الوطن في جامعة اليمامة يوم الثلاثاء 4-1-2022 تحت عنوان «ثقافة التفاهة»، والتي بدأها بطرح تلك التساؤلات: هل التفاهة ثقافة؟ وهل يحق لنا أن نجعل التفاهة نوعاً من أنواع الثقافة؟ أم أن هذا العنوان استفزازي لإحداث ما يشبه الصدمة للمتلقي؟ وهل يحتاج المتلقي إلى صدمة من التفاهة بعد أن أحاطت به المتغيرات المتسارعة والمتلاحقة بصدمات لا يستوعبها ولا يدرك أحد مداها؟ إجابات هذه الأسئلة يجب أن تتأسس بداية على تحرير مفهوم الثقافة والتفاهة. وقد أجاب الدكتور الصيني بمحاضرة قيمة عن تلك التساؤلات، ولكن لما للموضوع من قيمة اجتماعية وأدبية وإنسانية رأينا أن نفتح باب للإجابة عن تلك التساؤلات من بعض أهل الخبرة والاختصاص، لرؤية الموضوع من عدة زوايا ولتتضح الصورة للمتلقي للعلم والاستفادة، طرحنا تساؤلات الدكتور عثمان الصيني على كل من الدكاترة المحترمين، الدكتور حسن البريكي وهو طبيب ومترجم عن اللغة الألمانية وقارئ ومثقف وله تجربة رائعة في كتابة المقال في صحيفة اليوم، الدكتور النفسي عادل محمد العلي وهو كاتب له مقاله الأسبوعي بالمجلة الثقافية والدكتور أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري، الدكتورة رانية العرضاوي أستاذة النقد والأدب بقسم اللغة العربية جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، فكانت الإجابة...
ثقافة الفاشنيستا
قرأت محاضرة الأستاذ الصيني التي ألقت ضوءًا على ظاهرة التفاهة في الثقافة المعاصرة. هو وصف الظاهرة مستعينا بذخيرته اللغوية المشهودة مستعرضا اشعار الاقدمين واقوالهم فيما له صلة بالموضوع المطروح.
لكن الامر اكبر من ان يستوعب في الجانب الوصفي المحض. التفاهة التي تشهد انتعاشة غير مسبوقةً لم تأت عفوا. انها ثقافة ممنهجة تقوم على درسها وبثها وتعميمها مراكز بحث متخصصة تدعى, (Think tanks).
هذه المراكز تقوم ما تقوم به بتكليف من مؤسسات المركب الصناعي -العسكري- التثقيفي القريب من عائلات روتشيلد وروكفلر وول استريت وشركاتً الترفيه الخ.
على رأس اهداف هذه المؤسسات المتغولةً توسيع العائدية. وهذا الهدف يقتضي تعميم ثقافة (الفردانية) وبضمنها النزعات الاستهلاكية. هذه النزعات حين توقظ من سباتها لها شبه
كما يقول جبران خليل جبران بشرب ماء البحر. كلما شرب المرء منه زاد عطشا، هذه الأقلية من بارونات المال لا مصلحة لها في تنوع الثقافات ولا مردود ترتجيه من بقاء توازن بيئي أو سلم اجتماعي. ملخص القول: إن الربحية هي الاساس، جاء ذلك بطريق تدمير البيئة، او تدمير مقومات الامم الثقافيةً او اشاعة الانحدار القيمي. هذه القوى هي صاحبة اليد الطولى في هذا التطور الانحلالي الشامل، وهو اعداد لجيل من ذوي ثقافة الفرد ذي البعد الواحد كما ينسب الى هربرت مركوزة. انها حضارة بارونات المال التي تستهدف: تشييئ الإنسان. ضمن هذا التوجه: ثقافة الفاشينستا، والتقليعات، والألعاب يتيه بها أولادنا وتدمر في الوقت ذاته كل ما له صلة بالأسرة. إنهم (بارونات المال والدمى التي يحركون) وفق غاياتهم بما فيهم ممثلو الأمة في البرلمانات والدول بل والرؤساء. جميع هؤلاء هم أتباع وموظفون. ينسب الى روزفلت قوله الشهير: ما هو نافع ومربح لشركة جنرال إليكتريك هو صالح ونافع لأميريكا. وايزنهاور في خطاب وداعه بعد نهاية رئاسته: حذر من أخطار مجمع العسكرتاريا والمال في أميريكا.
ما ذكرته هو تكملة لما أسهب فيه الصيني في تناوله للجانب الوصفي (أي ما يسميه الأطباء عوارض المرض)، أما هذه المحاولة الموجزة فهي كتبت لبيان بعض الأسباب. أما علاج هذه الظاهرة العدمية فلا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا تضافر على حلها جهد ثقافي سياسي اقتصادي عالمي. هذا هو بيت القصيد. إن طموحاً مشروعاً كهذا هو ضمن الظروف القائمة حالياً أشبه ما يكون بطوبائيةً يتيمة. غير أن الأمل. يثوي في أن استمرار هذه الجائحة هي سبيل مؤكد لانتحار كوني. فهل يقف الإنسان المكلف أن يكون خليفة في الأرض موقف اللامبالاة؟ هذا هو السؤال.
الدكتور حسن البريكي
***
هل هناك ثقافة التفاهة؟
السؤال هو: هل يمكن أن نضع التفاهة في إطار الثقافة؟ أم لا؟. ولعل المقصود بالتفاهة هنا هو الأعمال قليلة الوزن والقيمة التي تظهر في مختلف مجالات الإبداع التي ينحصر دورها في التسلية. هناك بالطبع حالات تقترن فيها التفاهة بعلامات أخرى تجعلنا نخرجها من باب
«تفاهة الثقافة» إلى «انحطاط الثقافة» كتلك الحالة التي وقفت فيها مطربة على المسرح، وطلبت من أحد مشاهديها الصعود للمنصة ثم تبولت على وجهه! هنا نحن لا نتحدث عن «تفاهة الثقافة» بمعنى قلة القيمة، بل نتحدث عن وضاعة وانحطاط التفاهة. تاريخياً لازمت التفاهة نشأة وتطور المجتمعات والثقافة، ولم يخل منها عصر أو نظام أو شعب، وفي خضم ثورة 1919 في مصر، بينما كانت الأفئدة مشتعلة بنشيد بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، فإن ذلك لم يمنع ظهور أغنيات مثل «ارخي الستارة اللي في ريحنا» وغير ذلك كثير. وفي ستينيات القرن الماضي عندما كان توزيع روايات نجيب محفوظ لا يتجاوز الألف نسخة بالكاد، كان توزيع روايات كاتب آخر يدعى عزيز أرماني يفوق الثلاثة آلاف نسخة، ومنها عمل معروف باسم « خذني بعاري». وللتفاهة الثقافية جذور تشب وتتفتح منها، وفي مقدمتها تدهور الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، إذ يشكل ذلك التدهور أرضاً خصبة لتلك النباتات. لكن للتفاهة جذوراً أخرى أيضاً كامنة في أعماق الإنسان، مما يجعلها تظهر وتروج حتى في عصور الازدهار، وتتجسد هذه الجذور في الطبيعة البشرية التي تميل للراحة واللهو والبحث عن أسباب التسلية، ومن هنا ظهرت كل الألعاب المعروفة لدينا كالنرد والورق والضومينو وظهرت في الأدب الشعبي الألغاز، ثم ظهرت مؤخراً «التفاهة» في شكل أفلام وروايات وبرامج لتسد لدى الإنسان حاجته إلى مجرد الراحة والانقطاع عن التفكير في أي شيء جاد. لذلك أقول إن التفاهة لازمت تاريخ التطور والأكثر من ذلك أنها لن تختفي. وربما يعيد ذلك إلى الأذهان عبارة توفيق الحكيم حين قال: «لقد انتقلنا من عصر القلم إلى عصر القدم» في إشارة إلى أن نجوم المجتمع أصبحوا لاعبي كرة القدم وليس المفكرون والعلماء والأدباء. وأظن أن كل ما يسعنا أن نفعله هو أن نقدم -في مواجهة تيار التفاهة الهادر- الأعمال الجادة الحقيقية التي تحمي الثقافة وتبرزها بصفتها بوابة تفتح أمامنا الدروب للتفكير والتأمل والشعور. المزيد من تشجيع المجتمعات للثقافة واحتضان الثقافة يصبح الرد الوحيد على «التفاهة الثقافية».
د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري
***
صرخة ضد التصحر الثقافي
محاضرة رئيس تحرير صحيفة الوطن الدكتور عثمان الصيني بعنوان «ثقافة التفاهة» أصفها بـ»الصرخة ضد التصحر الثقافي والقِيَمي» في جميع الدول، خاصة النامية أو بالأحرى «النايمة» منها. ولست من محبي الكتابة عن الأشخاص، التي غالباً ما تكون وظيفتها التزلف أو التملق، ولكن الاتفاق «الراقي» بين «الدكتور إبراهيم التركي والأستاذ محمد الهلال»، على أن يكون موضوع المحاضرة «محوراً» لثقافية الجزيرة» هو ما قادني لكتابة هذه السطور.
لم يجهد نفسه الدكتور عثمان كثيراً في تعريف الثقافة أو التفاهة، واكتفى بالمعنى المتعارف عليه في القواميس أو الصحافة. وذلك لأنه «موجوع» مما آلت إليه النفسية «الاستهلاكية» المقيتة من «تصحر ثقافي وفكري» لدى مختلف شعوب العالم، خاصة بعد انبثاق وانتشار الأجهزة الذكية. وقد أوصل الدكتور عثمان ذلك «الوجع» إلى المتلقي عن طريق إثارة سيل من الأسئلة المحقة حول مآل هذا التصحر المعرفي والثقافي لدى البشر!
وقد أشار الدكتور عثمان إلى «تاريخية الصراع» بين الثقافة والتفاهة. وربما لم يتح له «وجعه» إلقاء الضوء على الأسباب. أو أن الوقت المتاح للمحاضرة ليس كافياً لتناول جميع الجوانب. أو أن الموضوع- وهذا هو الأرجح من وجهة نظري- يتطلب عملاً جماعياً، حيث يتناوله كل كاتب من زاويته. وهنا لا بد من الإشادة بمن جعل الموضوع محوراً للثقافية. وفي هذا المجال -ومن وجهة نظري الخاصة أيضاً- أقول: إن من أفضل أعداد الثقافية إن لم تكن أفضلها على الإطلاق هي تلك التي تعتمد محوراً، حيث لا مجال لتغلب «التفاهة» على «الثقافة»!.
ما الثقافة؟ هل تعريف الثقافة يتلخص فيما قاله إدوارد تايلور -كما جاء في المحاضرة؟ أي هل هي مجموعة العادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان ضمن مجتمع يعيش فيه والقوانين التي تحكم الفرد؟
إذا قبلنا مثل هذا التعريف، نكون قد أخطأنا عدة مرات وليس مرة واحدة! فأولها أن جميع أفراد المجتمع هم مثقفون! لأنهم جميعاً «اكتسبوا» العادات والتقاليد ضمن مجتمع يعيشون فيه! وهذا لا ينطبق مع الواقع. والخطأ الثاني عندما يقول (والقوانين التي تحكم «الفرد»)! فالثقافة ليست فردية وحسب، إنما هي مفهوم جماعي، يشمل الفرد والمجتمع والبشر عموماً في المرحلة التاريخية المعينة. والخطأ الثالث هو أن القوانين هي نتاج اجتماعي من أجل تنظيم العلاقة بين الأفراد وليس لها علاقة مباشرة بالثقافة.
إذا كان لا بد من تعريف للثقافة؛ فهي توظيف المعرفة الفردية أو المجتمعية أو الكونية في السياق التطوري الإنساني العام! ولكن «الصراع» بين الظالم والمظلوم؛ الموجود عبر التاريخ؛ هو الذي يجعل من «الثقافة» «ثقافتين»؛ واحدة للمظلوم وأخرى يروج لها الظالم؛ والتي يسميها الدكتور عثمان «تفاهة».
ثقافة المظلوم تنشد رفع الظلم بواسطة تحقيق العدالة؛ أي تنشد وتدعم التطور والرقي الاجتماعي؛ ولذلك هي غالباً ما تكون ثورية؛ سواء كان ذلك تدريجياً أم على شكل قفزات. أما ما يدعو له الظالم هو ثبوت الزمن وعدم التغيير. ولذلك جاءت دعوته بطريقتين: إما إخراج النص عن سياقه التاريخي وجعله هو الحقيقة المطلقة؛ وهذا بالذات ما يفعله «التراثويون»؛ وإما عن طريق «تسفيه وتتفيه» المفاهيم الأخلاقية والقيم الإنسانية؛ وغسيل المخ؛ من أجل تبرير الظلم؛ وترويج مقولات على شكل «الفن للفن» وليس للهم الاجتماعي؛ ونهاية التاريخ؛ والفراغ الفكري؛ وما إلى ذلك؛ وهذا ما يروج له «المثقفون» الذين باعوا ذممهم وأنفسهم للظالم.
تاريخياً مرت كل المجتمعات بموجات ازدهار ثقافي، وموجات أخرى من الانحطاط. وأسوأ عصور ذلك الانحطاط الثقافي هو عصر النظام الرأسمالي العالمي القائم اليوم، حيث أصبحت عارضة أو «عارية» الأزياء؛ «أغنى وأرقى» من مؤلف كتاب؛ والمغنية «التافهة» أهم من الأصالة والتراث الفني كله.. وهلم جراً.
النظام الرأسمالي لا يخاف من قوة المظلوم. فهي مهما بلغت من نمو لن تصل إلى قوة من يمتلك المال؛ والقانون؛ والجيوش؛ والسلطة؛ وما إلى ذلك. إنما يخاف من تنامي الوعي لدى الأعداد الغفيرة من المظلومين؛ الذين إذا وعوا «الخديعة» التاريخية؛ ولا تستطيع قوة أن تردعهم!
«احتباس الوعي» هو الهدف الأول للرأسمال. فالهيمنة على «التعليم» وتوجيهه لخدمة «التفاهة»، يمسك بتلابيب الوعي لكل الأعمار وينتج «استحماراً» ثقافياً. كما أن الهيمنة على الإعلام وبرامج الأجهزة الذكية يوفر للرأسمال القدرة المثالية لتعميق وتوجيه ذلك «الاستحمار» وتدمير «القِيَم» الإنسانية.
د. عادل العلي
***
التساؤل الأول الذي يطرأ على الذهن هو هل للتفاهة ثقافة؟
السؤال هذا يذكرني بتساؤل طرحه إبراهيم محمود في كتابه (العرب لا يحبون البصل) عندما كان يتساءل كيف يمكن أن يُعطى البصل اعتباراً تنويرياً ليكون عنوان كتاب نقدي؟! ثم أثبت إمكانية ذلك بطرح مهم عميق بلا عبث، ومن ثمّ أقول نعم، للتفاهة اليوم ثقافتها المستقلة التي استطاعت أن تمتد من جذور قديمة وُجدت لها، فثقافة التفاهة ليست طارئة على العالم اليوم، ولا هي وليد اللحظة الرقمية الراهنة، هي موجودة في عصور قديمة وَسمناها بالذهبية، فالتافهون وثقافتهم وسلوكهم وأقوالهم وفكرهم واقع روته كتب التراث وحكت عنه في مختلف الأمم، منها نماذج شعرية، وسردية وفكرية، ومنها ما كان في قصص يتندر به العقلاء في مجالسهم. وأعتقد أنها اليوم أخذت مساحة أوسع بسبب اختلاف قالب البث الثقافي، وما زاد من قوتها وبروزها سهولة وصولها للذائقة الشعبية والجماهيرية العريضة عبر قنوات التواصل الاجتماعي. فالمسألة هي اختلاف الوسيلة، والانتشار السريع الذي عقّب استحساناً كبيراً لثقافة التفاهة، وتشكلات منطقة الراحة من خلال تبنيها، وأعني الراحة الفكرية المتوَهَّمة، وكذلك اتصالها بالمربح المادي السريع.
أما بالنسبة للصدمة الثقافية التي يعيشها المتلقي، فهي ليست صدمة عامة، أراها متراوحة الوجود، فهنالك مُتلقٍّ انغمس في هذه الثقافة، وارتاح لها كثيرا، بل ورأى فيها انتماء مكّن له وجودا كان من المستحيل أن يتحصّل عليه لولاها. أمّا المتلقي المصدوم فهو الذي ميّز وجودها على أنها ثقافة مضادة لما ينتمي إليه، وحاول مقاومتها بكل قوة، لكن يوجد شقّ من هذا المتلقي رضخ في آخر الأمر لانتشارها وبات راكدا أمام مدّها مُهادنا لها. والأمر الذي يبعث على التأمّل هو ماذا لو أنّ هذه الثقافة تمكّنت من المتلقي المقاوم لها، المتلقي الذي يحفظ شيئا من التوازن مع كل متغيرات التفاهة واجتياحاتها؟ هل سيكون هنالك ثقافة تفاهة عندها أم ستغدو هي الثقافة الجديدة بمعاييرها الخاصة التي ستزيد من استفحالها وبلوغها منازل الهُوية عند بعضنا! الأمر يحتاج إلى تدوير ومعالجة.. ربما.
د. رانية العرضاوي - أستاذة أدب في جامعة الملك عبدالعزيز