د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كان الناس يتوقعون أن الصين ستكون مساهماً كبيراً في المجال الاقتصادي، والسياسي، والعسكري، أما اليوم فهي واقع حاضر، يراه الناس بأعينهم، ويرون المنتجات الصينية، والتفاعل الصيني مع العالم في المجال السياسي، والاقتصادي، والعسكري يتزايد يومًا بعد يوم، وهناك دول ترى أن الصين أصبحت تزاحمهم في الساحة العالمية، ولهذا فهم يرون أن من المناسب اتخاذ بعض الإجراءات التي تكفل عدم إزاحتهم من الميدان، لكنهم قد يقبلون بحكم الواقع مشاركة معقولة ومناسبة تجعلهم في المقدمة، ويكون للصين نصيب في هذا الميدان الفسيح، وهذا أمر معقول بالنسبة لأولئك المتربعين على الميدان العالمي، لكن الصين أيضاً ترى أن لها الحق في أن تزاحم على المقدمة وتكون أولاً، وقبل الجميع، سواء في الميدان الاقتصادي أو غيره، ولا شك أن ذلك تطلب ويتطلب كثيراً من الجهد والتخطيط والعمل الدؤوب والقدرة العملية الموروثة.
أتيح لي ان أعيش في الصين أربع سنوات قبل عقدين من الزمن أي قبل 20 عاماً أو أكثر، وكانت الصين في بداية انطلاقتها الفائقة السرعة، وأصبحت أفكر ملياً في سبب هذا التقدم السريع والانطلاقة التي لا يقف في وجهها أي تيار، وتساءلت كثيراً عن بسبب هذه الانطلاقة السريعة، هل هو التنظيم الجيد، أم الثقافة الموروثة، أم هو موضوع جيني فحسب، وتساءلت عن الدافع لهذا العامل، والمشرف، والمهندس، والمدير، الذي يعمل بجد واجتهاد ولا يكل ولا يمل، رغم أن المبالغ التي يحصل عليها جراء هذا العمل الجيد والمضني ليس بالكثير.
قلبت في صفحات تاريخهم وثقافتهم، منذ آلاف السنين، وكتبت عن ذلك كتاباً، ورأيت أن ثقافتهم هي مزيج من الثقافة المحلية، وثقافة وافدة، وعلى رأس تلك الثقافات الوافدة، الإسلام الحنيف، الذي قدم إلى الصين في وقت مبكر حمله المسلمون الأوائل من عرب، واتراك في آسيا الوسطى، وفرس، ومنهم من عاد ادراجه، لكن البعض بقي هناك، وعاش كجزء من النسيج الصيني، كما أن بعض الصينيين الأصليين اعتنقوا الإسلام، واصبح ديناً لهم، وبنوا المساجد، وكتبوا القرآن، والأذكار، وغيرها، وكانوا حريصين على الاحتفاظ بما يقع تحت ايديهم من هذه الكتب، ويمارسون صلاتهم بكل يسر في المساجد التي بنوها بالتعاون مع بعضهم البعض، أو تم بناؤها من بعض أحد المقتدرين، وفي فترات معينة بمساعدة الدولة.
والثقافات في الصين عريقة عراقة التاريخ، فمن ذلك المعتقدات القديمة الأصلية غير الوافدة مثل الطاوية، والكنفوشيسية، ووردت إليهم أيضا الثقافة البوذية، وتبناها البعض، وفيما بعد وردت إليهم الديانات اليهودية والمسيحية، واليهود في الصين عددهم قليل، وهم يتركزون في الشمال الشرقي غالباً وقد نزحوا من روسيا وغيرها، بعد الحروب المتعاقبة على العالم، لاسيما الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وغيرها من الحروب الداخلية في البلاد المجاورة للصين.
ونظرت بعين الفاحص إلى مقدار التنظيم لعلني اجيب عن السؤال المطروح فيما يتعلق بالتنظيم، وهل التنظيم هو الأساس في هذه النهضة العملاقة، إن كان التنظيم مقتصرا على التنظيم من الاعلى أي من قبل متخذي القرار، أو أن الأمر متسلسل حتى يصل إلى الخلايا الصغيرة، التي تنفذ العمل المطلوب وفهمت ورأيت أن ذلك هو ما يقع فعلا، حيث إن المشرف على العمل في الصباح الباكر، يطلب من العمال أن يصطفوا في طابور صباحي، ويردد عليهم جملا تحث على العمل، والجد، والإخلاص، رغم أنه ملل حيث أن ذلك يعاد بنفس الطريقة وبنفس الجمل في كل صباح، ولهذا فإن العمالة بطبيعتها أيضا تذهب إلى عملها، تنجز ما هو مطلوب منها بقدر ما تستطيع من إمكانات وقدرات، وما يتوفر لديها من وقت، وإن كان الوقت احيانا غير كاف، فيمددون ساعات العمل.
لم يكن لدى الصين في ذلك الوقت مال كاف، وكانوا يجلبونه عن طريق تصدير بعض المنتجات التي لم تكن في ذلك الوقت جيدة بالقدر الكافي، لكنها تجلب لهم بعضاً من العملة الصعبة التي يستطيعون من خلالها استيراد ما يحتاجون إليه، وما ينقصهم من الطاقة والمواد الخام الأخرى التي تتطلبها الصناعة، وأيضاً ما يحتاجونه من غذاء لاسيما فول الصويا.
التساؤل الثالث كان منصباً على الجينات الوراثية، هل تلعب دوراً أساسياً في المساعدة في تلك النهضة العظيمة التي تعيشها الصين وفعلاً تجد، وتلمس، ونرى أن للجينات دوراً كبيراً ومهماً في الصبر على العمل والتفاني فيه، والتدقيق في الأمور الصغيرة المهنية، والقدرة على التسويق، والمغامرة في ذلك، وتحمل الصعاب المصاحبة له.
سنقف عند هذا الحد لنكتب صفحة أخرى قادمة عن الصين المميزة.