أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إنكارُ تعليل أفعال الله لا يلزم منه إبطال القياس جملة؛ وإنَّما يلزم منه إبطال القياس الذي جامعه العلة؛ فيخرج مثلاً القياس المبني على الوصف المنضبط.. وإنكارُ تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى لا يلزم منه إنكار تعليل شرع الله؛ لأنَّ الشرع علَّل بعض الأحكام والأفعال؛ وإنَّما المنكر تعليل لم يرد به شرع ولا مجال لإدراكه بالعقل والحس.. ثم إنه يوجد فرقٌ بين علَّة توجب على الرَّبِّ سبحانه وتعالى فعلاً، أو تركاً، أو شرعاً، وبين علَّة يجعلها الرَّبُّ سبحانه بإرادته وحكمته وقهره باعثة لفعل أو شرع أو ترك، والإمامُ (ابن حزم) ينكر العلة الأولى، والله سبحانه وتعالى حكيمٌ عليم، فأفعاله وشرعه كل ذلك معلل بحكمته سبحانه، ولا نعلمُ من حكمته إلا ما علمنا أو استنتجته عقولنا بيقين، والقياس من طرق العقل في الاستنباط؛ وهو ظنيٌّ يستخدم لاكتشاف الفارق المؤثر أو انتفائه، والإمام (ابن حزم) فرَّق بين النص على الشيء بمعناه ووصفه، أو النص عليه باسمه، وقرَّر أنَّ ما لا نصَّ فيه بالاسم، أو المعنى لا يمكن أنْ يلحق بالمنصوص عليه باسمه؛ بل لا بد من وجود فارق مؤثر؛ فالإمام (ابن حزم) رحمه الله تعالى نفى القياس؛ لأنه ليس من طرق العقل اليقينية التي لا احتمال فيها؛ وهو يرفض ثنائية المنصوص عليه وغير المنصوص عليه؛ بل كل شيء لم ينص عليه باسمه فهو منصوص عليه بمعناه، والعفو وبراءَة الأصل من النص بالمعنى.. وإذا وجد في المنصوص عليه باسمه معنى ثم وجد ذلك المعنى في غير منصوص عليه باسمه فلا يثبت حكم الثاني بالقياس حتى يقوم دليل على أنَّ ذلك المعنى ثابت فيه حكم ذلك المنصوص عليه باسمه.
قال أبو عبدالرحمن: القاعدة عند جمهور علماءِ المسلمين كما هو مفهوم الشرع أنَّ الخطاب من الله جلَّ جلاله، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي الامتثال عقداً وقولاً وعملاً؛ والغاية من الامتثال تحقيق رضا الرب والنجاة من النار ودخول الجنة بدءاً برحمة الله سبحانه وتعالى؛ وهذه هي الحكمة العامة، والعلة الكافية؛ لأنَّ المكلفين من الجن والإنس ما خلقوا إلا لهذا الامتثال؛ وهذا لا يعني المنع من تحري حكمة الشرع في تفصيلاته؛ وإنَّما المحرم أمران: أولهما وقف الامتثال على معرفة الحكمة؛ فهذا شغب على الشرع؛ بل الواجب على المكلف الامتثال فور تبلغه بالنص وفهمه له واستطاعته ما طلب منه امتثاله.. وثانيهما تأسيس أي حكم شرعي على أي حكمة شرعية ما لم تكن هذه الحكمة منصوصاً عليها، أو مستنبطة متيقنة، أو غالبة الرجحان، وبشرط أنْ يكون الحكم المبني على الحكمة اجتهادياً في موضع لم ينص عليه باسمه؛ لأنَّ النص على المحكوم فيه باسمه أخص من النص على معناه؛ وإنَّما قلتُ: إنَّ الحكمة مقصد مندوب المجتهد إلى تحريه بذينك القيدين المذكورين آنفاً، لأنَّ الحكيم من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومن صفات تدبيره؛ ولأنَّ الله وصف تدبيره الشرعي بالحكمة في عشرين آية من كتاب الله، ولأنَّ الله استحث عقول المكلفين على التدبر والاعتبار.. والحكمةُ تكون مصلحة دنيوية منصوصة كأثر القصاص في تحقيق الأمن، وتكون مستنبطة لتحقيق مصلحة دينية، أو دنيوية كندب الشرع إلى التخفف من المباحات؛ فالمجتهد يرجح أنَّ الحكمة دينية وهي التخفف من الحساب يوم العرض الأكبر، ولن يستوحش المكلف من هذا الاستنباط وهو يجد في دين ربه أنه مسؤول عن النعيم، وأنَّ الكفَّار مبكتون باستهلاك المتعة في حياتهم الدنيا.. وحق على المجتهد إذا لم يجد الحكمة منصوصاً عليها ألا يجزم بأنها مراد للشرع حتى لا يقول على الله بغير علم؛ وإنما الحكمة ثمرة لامتثاله؛ فعلى سبيل المثال ألَّف أحد المعاصرين؛ وهو الأستاذ (عبدالرزاق نوفل) كتاباً عن (الصلاة) وأحصى ما فيها من حكم دنيوية لا سيما ما ينفع البدن؛ فلا يحق للمجتهد أنْ يجزم بأنَّ هذه المصالح هي مراد الشرع من فريضة الصلاة أو جزء من مراده؛ لأنَّ هذا قفو محرم، وقولٌ بغير علم يقيني، أو راجح.. ولكن المجتهد إذا داوم على الصلاة، وتحقَّقت له من الديمومة مصالح دنيوية فليقل بغير خوفٍ ولا وجل: هذه حكمة حققتها من امتثالي لحكم الشرع؛ فهذا هو الفاق بين حكمة الشرع وحكمة الامتثال.. وبعكس ذلك تحقق قوة المسلم في مواجهة صعاب حياته بسبب الصلاة، وتحقق عصمته عن كثير من الخطايا؛ فهذه حكمةٌ راجحة؛ لأنَّ الله نص على أنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وحثنا ربنا على الاستعانة بالصلاة، واستراح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت قرة عينه فيها، ولقد تذوَّق هذه الحلاوة الشيخ (يحيى بن مالك بن عائذ الأندلسي) رحمه الله تعالى فكان إذا دخل المسجد قال عن الصلاة:
يا رب لا تسلبني حبها أبداً
ويرحم الله عبداً قال آمينا
والبيت في الغزل؛ فكان هذا من مليح التمثل، ونقل الشاهد.
قال أبو عبدالرحمن: والمواظبون على الصلوات الخمس جماعة أحرص الناس على الدقة والنظام، وإنجاز العمل في يومه، وأبعدهم عن الكسل والتثاؤب؛ فهذا ثمرة للامتثال بلا ريب وحكمة التشريع علمها عند الله سبحانه وتعالى.. وهناك مواضع لا ينبغي فيها قفو الحكمة مطلقاً كالمتشابه، وأوائل السور المقطعة، والبادات المحضة ككون صلاة الظهر أربعاً لا ثلاثاً، وكون صلاة المغرب ثلاثاً لا ثنتين والرمي بسبع حصيات، وتقبيل الحجر الأسود، وكون الحد الفلاني ثمانين جلدة لا خمسين ولا مئة.. والقاعدة في هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، وأنَّ لله غيوباً استأثر بها، ومن حكمة الله ما هو داخل في غيبه.
قال أبو عبدالرحمن: الظاهرُ ليس هو الجمود على الحرفية؛ وإنَّما هو تحقيق القضية، فما لا تدل عليه اللغة من النص، وما لا يحتم العقل مفهوميته من ملاحنه: فليس قضية نصية.. ولقد رأيتُ الغالب عند طلبة العلم؛ بل هو المشهور فيما درسناه من كتب مراجعنا في الدراسة المرحلية: أنَّ الأخذ بالظاهر يعني الأخذ بالواضح وإلغاءِ الخفي؛ أي أنَّ المدلول عليه إذا كان خفياً لا يكون ظاهراً حتى يكون واضحاً؛ وهذا وهمٌ شائعٌ مضلل سببه أنَّ القوم لم يطابقوا منهج أهل الظاهر في الاستدلال على مقتضى أصول اللغة العربية، والواقع أنَّ الظاهر يعني الواضح الجلي والخفي الذي لا يدرك إلا بلطف.. أما غير الظاهر فهو ما أبى النص أنْ يدل عليه.. وقال (عبدالقاهر الجرجاني) في كتابه (أسرار البلاغة) ص363 عن المسرفين في التأويل: ((فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقله من المعاني))؛ فهذه اللمحة من (عبدالقادر) أذكى عبارة في تحديد الظاهر النصي؛ فما لا تقله الألفاظ من المعاني فليس ظاهراً، وما تقله فهو الظاهر سواء أكان جلياً، أو خفياً، والظاهر النصي ظاهران: الظاهر العرفي اللغوي الأعم الذي لا يخرج مراد المتكلم عن أحد أفراده، ومراد المتكلم المتعين.. والأول هو جميع الاحتمالات الجائز استعمالها لغة كاستعمال العين للباصرة، والنبع والذات والطليعة والذهب.. إلخ؛ وكل احتمال لمعنى لا يصح ارتباطه باللفظ لغة أو بلاغة فهو غير ظاهر.. والظاهر الأخص المتعين إنَّما هو مراد المتكلم، ومراد المتكلم أخص من عموم معاني اللغة؛ فإذا كان ما زعم أنه مراد للمتكلم ليس أحد أفراد الظاهر العرفي فليس ظاهراً؛ بل هو تقويل للمتكلم بما لم يقله حقيقة، ويحمل على هذا كثير من كلام المتلاعبين بكلام الله كالصوفية والباطنية، وبعض المتفلسفة والإنشائيين، وإذا لم يقم برهان من سياق الكلام، أو خارجه يعين مراد المتكلم فالمدلول احتمالي وليس ظاهراً.. وقد تفقه أولئك الأجلة في لغة العرب ومنطق الفكر قبل أنْ يتعرضوا لتفسير النصوص والاستنباط منها.
قال أبو عبدالرحمن: قد ينطلق مفسرو النصوص منطلقات تُسهب في تأويل الكلام تأويلاً يخرجه عن ظاهره لظنهم أنَّ الظاهر غير مراد في حين أنَّ النص لا يتحقق فهمه بغير حمله على ظاهره؛ فإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -