فقد قَالَ الشّاعر الحكيم لبيد بن ربيعة:
وما المرء إلَّا كالشهاب وضوئه
يحورُ رماداً بعد إذ هو ساطعُ
وما المال والأهلون إلَّا ودائع
ولا بُدَّ يوماً أن ترد الودائع
المرء في هذه الحياة يمرُّ بظروف صعبة جراء المتغيرات التي تحيط به من كل جانب ويحاول بقدر المستطاع أن يتجاوز هذه الأمور من خلال قوة صبره وتحمله وقوة عقله ونضج فكره واتساع قدراته على المقاومة ضد التّيارات المتلاطمة فالإنسان مهما يملك من سلاح المقاومة فلا بُدَّ أن يخوض المعركة بين الصّراع والائتلاف وبين الاختلاف والانسجام وبين العناء والراحة وبين الحزن والسَّعادة وبين الأمانة والخيانة وبين الصّدق والكذب وبين الوفاء والجحود فهي حياة البشر - وليس هناك من شك في أن المرء يعلم يقيناً أنه أسير مشاكله الاجتماعيَّة والاقتصادية عبر هذا الزّمن الممتد لم يكن سهلاً ليناً، ولا سلساً هيناً، بل يُقابل مع الأسف الشديد بعقبات وعراقيل تفتت من عضده وتعطل موكبه حيث إنه مكون من لحم ودم وعظام فهو مكون من كتل عصبية تتغذى على تيارات الأحاسيس والمشاعر والأفكار وعندما خلقه الله سبحانه وتعالى أودع فيه أعظم أسراره، وهو العقل فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتمتع بالإرادة وبالعقل المميز الحكيم الَّذي يُمكن أن يعيده إلى طريق الصّلاح وطريق الخير والسَّلام والمحبة حيث يقدم خدماته للآخرين متجاوباً مع مبادئ الحياة التي تعطينا الكثير والكثير دون انتظار جزاء أو مكافأة - فقد نسي الإنسان غمرة وسائل المعرفة والاتِّصال سواء ما كان منها مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً أنه إنسان ليس المهم أن يعيش أطول بل أن يعيش أفضل ليس أفضل من حيث امتلاك المعلومة سواء كانت حقيقة أو غير حقيقة فهي تخدر أعصابه، وتقتل ضميره، ولكن أفضل من حيث فهمه لنفسه وتعاطفه مع الآخرين، هي أفضل من حيث إيمانه العميق بقدرة الله وتعلقه بأهداب الخير والسَّلام فقد أصبح في داخله المعاصر مارداً أخضر، ومارداً متوحشاً، لا يعمل من أجل الخير والسَّلام للآخرين بل لتكديس الثروة وزيادة القوة وامتلاك أسباب السيطرة مما جعل براكين الغضب والحزن تظهر على وجوه هؤلاء في هذا الاجتماع حيث ينتشر الصّمت بين جنباته والسكون يلفه من كل جانب أثناء استماعهم إلى كلمة المعد لهذا الاجتماع.
فإن الكلمات التي وردت على لسان المعد هزت مسامعهم وأفكارهم وتطلعاتهم وحساباتهم وأهدافهم من الأعماق فإن أجنحة الغربان تحترق عندما سمعوا تلك الكلمات الصريحة والبنَّاءة فإن أسطورة الطمع وحب الذات والأنانية والجشع أخذت تنساب في صدورهم وقلوبهم زفرات مكتومة فإن علامات الغضب والحزن ما زالت مشتعلة خلال اللِّقاء وبعد اللِّقاء.
فإن حركة قلوبهم لا تعرف الثبات وأعصابهم لا تعرف السكون وعيونهم تتوهج ببريق مهيب وصدور مليئة بالحسد والحقد. يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} سورة الأنعام آية 152.
وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} سُورة النَّساء آية 54.
فالمرء لا يحاول أن يغضب من الحق.. ولا يثور في وجه من يطالب بحقه.. أو يسعى من أجل تثبيت ماله.. فالذي يغضب ويحزن من الحق فإنه يسجل على نفسه موقفاً سلبياً فإن الأمر يحتاج إلى مراجعة وتأمل وتريث.. حتى يصحح مقصده.
وفي الأثر: (قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليماً، ولسانه صادقاً، ونفسه مطمئنة مستقيمة).
فإن أشد المواقف مرارة وسقوطاً هي تلك التي يطعن فيها البعض الآخرين من الخلف ذلك أن شرف المواجهة ونزاهة المنازلة أن تكون واضحة.. مكشوفة.. معروفة.
إن الطعن من الخلف هو تأكيد على أن خصمك لا يقدر على مواجهتك لأنه يعرف مدى ضعفه وتمزقه وسقوطه ولهذا فإنه يلجأ إلى التواري.. وإلى رفع يده في الظلام.. وإلى محاولة كسرك دون أن تدري ودون أن تمارس حقك الطبيعي في المواجهة. إن الذين يطعنون من الخلف هم الضعفاء وهم لا يستاهلون أكثر من العطف والشفقة!!!
ويقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم على لسان إبراهيم:- {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِين} سُورة الشعراء آية 84.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سُورة النور آية 24.
وقال الشاعر الحكيم:
وبعضهم، أظمأته الشمس واحترقتْ
رجلاه، ما عنده، ما منه ينتعل
وكلهم يشتكي من سوء قسمته
إلَّا الَّذي حبله بالله متّصِلُ
سبحان، من قدَّر الأقدار، حكمتُهُ
تخفى علينا، ولكن ما لها بدل
والله الموفق والمعين.