إلى الذين يحبون الحياة والطبيعة، فيعملون ويحسنون، أرض منطقة حائل؛ جبالها ورمالها وصحراء عالج والنواحي الشمالية؛ مداحي سيل، وزهاء ليل، وغيل يواصي غيلا، قد ارتوت إجرازها، ودمّث عَزَازها، والتبدت أقوازها، فرائدها أنِق، وراعيها مُسْنِق، فلا قضض ولا رمض، عازبها لا يفزع بعدما:
سقى دار هند حيث شطت بها النوى
أحَم الذّراى داني الرّباب ثخين
له فِرَق كُلْف تكركره الصّبا
كأن تداعي رعدهن رنين
إذا ما رحا منها تحيّر ماؤها
تداعى لها جون الظِّلال هَتُون
تباري تواليه أوائل مزنه
كما سيق منكوب النسور لَجُون
بروق أصابت بلادا عريضة وأرضا أريضة، مدافع غيث في فضاء عريض رأيتها فوق الجبال ومنابت الشجر، أرضا موشمة البقاع، تجللت بالنبت المكتهل، من سارية في إثر غادية، وغادية في إثر سارية، ما شاء الله، بعدما كانت الأرض مغبرة الآفاق خاشعة الصّوى..
يا بؤس للقلب بعد اليوم ما آبه، ذكرى المنازل، وذكريات الأحباب، ومذكرات السابقين:
(إن ولد قحطان لما اتخذوا أرض اليمن مسكنا، وكثروا فيه، ولم يسعهم المقام في موضع واحد، اجمعوا رأيهم على ان يسيروا في أرض اليمن، فيختار كل بني اب موضعا يعمرونه ويسكنونه فأُسْمِي المكان: (المخلاف).. عاد بي التداعي اللفظي والاشتقاق، فمن أين؟ وأنا أرى الناس في منطقة حائل يستعدون للربيع والمخلاف بالرجال وأهليهم زمن العشب والخضرة..
(فالأخلفة: كأنه جمع خَِلف: أحد مخالف بولان بن عمرو بن الغوث من طيء بأجا، نقله ياقوت.
مخلفات البلد: سلطانه
أخلفت الأرض: إذا أصابها بَرَدُ آخر الصيف، فاخضر بعض شجرها
أخلف النبات: اخرج الخِلفة، وهو الذي يخرج بعد الورق الأول في الصيف
المخاليف: الأطراف والنواحي، وفي كل بلد مخلاف
والمستخلف في القديم: الذي يحمل الماء من بُعْد أهله..)
من ذكريات الصبا والكهولة، وللذكرى شجون، وقد فات ذاك العهد إلا تذكرا.. كانت حلوة لذيذة تلك المخاليف السعيدة الخضراء، أكان ما أضمر لها في القلب حبا، أم كان مودة خالصة، أم كان شيئا بين ذلك لم اتبينه، حينئذٍ، وإنما تبينته بعد ذلك.. حلوة لذيذة تلك الأيام بين النفود والحجرة وفيحان وزهوة والتيسية وربداء والرمال الذهبية المكسوة بالخضرة، وكان أحلى منها وألذ ذلك اليوم الذي نزلنا من تلك المراكب في غابات وادي الأقرع جنوب عرعر، ولم نشعر بتعب ولا كلال، قضينا الليل في (المظليات) سهرا وسهدا،
سما لك شوق قديم، أيها الحائلي، بعدما كان أقصرا، أنت في (المخلاف) وأيام السرور قصار، وكل حياة إلى منتهى، فاغنم من الحاضر، جبال وحزون مائسة تزهى وقد خلع الحيا عليها حلى حمرا، وأردية خضرا، يذوب لها ريق الغمامة فضة، وقد قضقض النوار كل رباوة، وسال عليها للأصيل نُضار..
أنت في المخلاف، يممت من علياك خير ميمم تحل من مغناك في الحمى الأخضر، وقد خلعت من عنقك كل حمالة من المشاغل غير التمتع بالطبيعة الخلابة، تراءى الصحراء الملهمة الأولى التي فجرت ينابيع القرائح على ألسنة العربي القديم والحاضر في جزيرته؛ ففوق رمالها عاش يتغنى بها، ويغني لها، ويستمد منها عناصر الخيال، في أعماق الصحراء والبرية، فالعربي متميز من سائر البشر في حياته وعاداته وقيمه الخلقية، عاشت الصحراء والمخلاف في أعماقه، وحيا حيّا، وإلهاما متجددا، ونبعا ثرّا بالأحلام والرؤى الزاخرة بالجمال والفتنة، كلما نزل الغيث..
.. لك الله من برق تراءى البارحة منتصف كانون الثاني 2022 م، فسلّم صاخبا ومبشرا، وصافح رسوم الجبلين، تصوب علينا والغمام غموما، فجاد الحمى غادٍ من المزن، رائح، تهاداه أعناق الرياح العاصفة كلالا، وفي الليل كانت سارية دهماء حار بها الدجى، فشب بها البرق المنير في كل مكان حولنا.. الحمد لله على نعمه.. فإربع، يا صديقي، بحيث أرضك الشمالية ديمة، ليمين يمن، أو يسار يسار..
حاشية
من بعيد الزمان؛ اتذكر صاحب لنا في التعليم، خاصمه ناظر مدرسة بحائل، ذاك المديني الحضري اللجوج، (رحمه الله حيّا وميتا) يعارض ظاهرة المخلاف، غاضبا، متبرما على تخلف الطلبة عن التحصيل العلمي، ورحلة الأهالي، نسي المتعة، وقد تربعت الاشراف ثم تصيفت في القاعد، والنفود، وتلاع مشار، وشطبب، والاحيمر، ونوف، والمعلق، و بحرة مروراة، والنبط، والمشط، ودارة مليحة، وقويرير، والشرق، وحقروصين، والناس كلهم خلوف انتجعوا مسايلا لاودية بما فيها من وشل وضلاضل.. وصاحبنا الحائلي التربوي يدعوه مخلصا بالخروج ليسلي حاجة، ويبريء همّاً.. إلى مجلس رجال وجماعة لا يحصرون عن الندى والكرم، بيض الوجوه، بشاشة على النيران حيث الأباريق والدلال، سراة بالعشاء، عظام الجفان، يعطون حقوقا ضُمِّنوها، وراثة، ووصايا، وأمانة.. فوا عجبا ما قد عجبت من صاحبنا ذاك الفتى الحائلي (عافاه الله) لم تبدله الأيام إلا إصرارا على المخلاف..
.. يدعونا اليوم عبر الجوال، إلى زيارته في المخلاف، في روضات محنية في ضبع، وعكاش، وياطب، والمليحية، والقيسان، بين العضاه وسامق البقل.. رغم أنف ذاك الناظر إن كان مصرّا على رأيه بعد مرور خمسين عاما على تلك الحفلة المدرسية 1395 هـ.