عبدالوهاب الفايز
أجزم أن كثيرين لديهم هذه الأمنية.. وهي: تبني مبادرة وطنية تستهدف تحويل المساجد إلى مراكز لتنمية وخدمة الناس في الأحياء السكنية. هذه سوف تساهم في جودة الحياة للسكان، وتساعد على توسيع وتعميق البعد الإنساني للمدن، وتحقق العديد من مستهدفات برامج الرؤية.
منذ دخلنا في الصحافة والإعلام قبل ثلاثة عقود، كان وضع المسجد يأتي إلى الاهتمام الإعلامي ثم يغيب، ولم تكن المساجد تشكل تحديا للمجتمع أو الحكومة. ولكن في منتصف التسعينيات بدأ وضع المسجد يدخل في قائمة التحديات بالذات في استهلاك الطاقة والمياه، ولكن لا أحد في الحكومة كان مستعدا لمناقشة أمور المسجد. وهذا ساهم في تطور الصورة الذهنية السلبية عند البعض، وبدا هذا واضحا من رخص أسعار الأراضي المحيطة بالمسجد!
ولكن توسع المدن وتطور أمور حياتنا جلب تحديات وطنية جديدة تتطلب آليات ومبادرات نوعية وجريئة لمواجهة أوضاع المساجد حتى تقلب التحديات إلى فرص وطنية، وهذا ممكن في ظل الرؤية الجديدة التي نعيشها. فمن مرتكزات الرؤية الرئيسية تحويل التحديات إلى فرص، والوضع القائم تحدي للحكومة ولنا جميعا، فالمسجد مؤسسة رئيسية في مجتمعنا، والكل سوف يتسابق إلى دعمها وتكريس دورها اذا وجد المبادرات النوعية.
والإحساس بتحديات وضع المساجد وضرورة توسيع دورها في مجتمعنا لمسناه في التوجه إلى تحويل المساجد، بالذات الجوامع، إلى مؤسسات اجتماعية داخل الأحياء لاحتواء الشباب. بدأ الحديث عن هذا بشكلٍ جدي بعد التفجيرات الإرهابية عام 2003، فقد تم تشكيل فرق عمل لدراسة تحويل المسجد إلى مؤسسة اجتماعية راعية وحاضنة لأنشطة الشباب تحت نظر وسمع أولياء الأمور ومؤسسات الدولة. كانت مبادرة نوعية إيجابية حينئذ، ولكن مضت السنوات ولم نر تطبيقات جديدة لهذا التوجه، ولم نعرف لماذا اختفت.
التحدي الأصعب كان في ضرورة ترشيد استهلاك المياه والكهرباء، فمع بناء الآلاف المساجد وجدنا أنفسنا أمام أوضاع غير معقولة للهدر في استهلاك الموارد المالية للدولة. وفي منتصف التسعينيات الميلادية الماضية بدأ الإعلام يتناول هذا الموضوع وبقيت القطاعات الحكومية تتحاشى هذا الأمر! ومرت بناء السنين وبنيت الآلاف من المساجد بالطرق التقليدية التي أورثتنا منشآت لا تحقق تطلعات الحكومة لترشيد استهلاك الطاقة والمياه.
استنزاف مواردنا سوف يتعاظم ويتوسع مع بقاء الوضع الحالي. هذا التحدي يتطلب تدخلات سريعة وأخرى استراتيجية. التدخل السريع يتحقق عبر تطوير التشريعات المنظمة لبناء وتشغيل المساجد حتى نضمن السيطرة على بناء المساجد الجديدة لكلي نطبق كود البناء الوطني ومتطلبات برنامج كفاءة الطاقة.
أما على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى، ولتحقيق المبادرة الوطنية التي نتطلع إليها فربما يكون من الأفضل تحويل ملكية جميع أراضي المساجد إلى الهيئة العامة لعقارات الدولة تحت مسمى (أراضٍ مخصصة لتنمية الأحياء السكنية)، مع إحالة جميع صلاحيات تراخيص البناء والترميم إلى وزارة الشؤون البلدية والإسكان، مع بقاء دور وزارة الشؤون الإسلامية ثابتًا في تعيين الإمام والمؤذن والترخيص للأنشطة الثقافية والفكرية والإشراف عليها. وهذا الإجراء سوف يساعد وزارة الشؤون الإسلامية لكي تركز جهدها على الأمور المهمة والضرورية لنا وهي: العمل على جبهة الأمن الفكري، والوعي الفكري، فالمجتمع يقدر الدور الكبير الذي تقوم به الوزارة في مجال الإرشاد الفكري وتطوير أساليب الدعوة الإسلامية، وهذا الدور العظيم يستهلك الجهد والوقت، ومن مصلحة بلادنا وشبابنا تركيز الوزارة على هذه الأمور الحيوية.
وهذا الإجراء يتماشى ويخدم التوجه الجاد الذي نلمس إيجابياته بعد إعادة هيكلة الأجهزة الحكومية الذي يستهدف التكامل والتركيز في العمل، والقضاء على تنازع الصلاحيات بين الأجهزة الحكومية الذي عانينا منه وعطل مصالح البلاد والعباد.
كذلك هذا النقل إلى هيئة عقارات الدولة سوف يسهل تنفيذ عدد من مبادرات الرؤية ومستهدفاتها. منها:
أولا ـ إنجاز مشروع ترشيد الطاقة في المساجد، بالذات التي بنيت قبل سنوات بعيدة، والآن تحتاج إعادة تأهيل وترميم وتبديل لأجهزة التكييف القديمة، مع تأهيل دورات المياه والمداخل للقضاء على المشاهد المزعجة لوضع الأحذية.
ثانيًا ـ إعادة تأهيل المساجد سوف يساعد على تحقيق مستهدفات برنامج القدرات البشرية، فالفراغات غير المستغلة تتيح إنشاء مراكز حضانة للأطفال.
ثالثًا ـ أيضا يخدم مستهدفات جودة الحياة، فالمسجد مؤسسة اجتماعية إنسانية تهيئ الأنشطة والخدمات المؤدية إلى أنسنة الأحياء).
رابعًا ـ استثمار سطوح المساجد، فلدينا ما يقارب 40 مليون متر مربع يمكن استثمارها للزراعة المائية وهذا يساهم في مبادرة الرياض الخضراء. أو في إنتاج الطاقة الشمسية، وهذا يخدم مبادرة مزيج الطاقة السعودي.
خامسًا ـ وجود مرافق مؤهلة في المساجد تخدمنا في المناسبات والاحتياجات الضرورية الوطنية مثل جائحة كورونا، فمقرات المساجد أماكن مناسبة للتطعيم، وتقديم خدمات التوعية الصحية.
سادسًا ـ تطوير وتعظيم دور المسجد يتطلب إدخال الأنشطة التي توجد (الموارد المالية المستدامة). هذا يتحقق عبر تقديم الخدمات التي يحتاجها سكان الحي مثل بقالة، صيدلية، حضانة أطفال، مكتب خدمات بريدية، عيادة طبية.. وغيرها من الخدمات التي يحتاجها السكان ولا تكون أنشطة مقلقة للراحة وجالبة للضوضاء. هذه الأنشطة سوف تولّد فرص تجارة وعمل لسكان الحي، وتوفر نفقات الصيانة والنظافة لمساجدنا.
والمهم وحتى تنجح هذه المبادرة نحتاج إلى دراسة جميع (الفتاوى الشرعية) السابقة حول المسجد التي مضى عليها سنوات بعيدة، فالظروف تغيرت ومقاصد الشريعة الإسلامية تتوسع وتؤكد أنها صالحة لكل زمان ومكان.
التفكير الإيجابي ضروري، فلدينا فرصة لتعظيم دور المساجد، وبحول الله سوف نعكس الوضع السلبي إلى إيجابي، فالمساجد التي كانت تتنازعها الصلاحيات.. الآن سوف تلاحقها المبادرات!